ولو كان ذلك عندهم سجعا لم يتحيروا فيه ذلك التحير حتى سماه بعضهم سحرا وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به ، ويصرفونه إليه ، ويتوهمونه فيه ، وهم فى الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه ، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم المألوفة لديهم.
ومن جنس السجع المعتاد عندهم قول أبى طالب لسيف بن ذى يزن : أنبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله وبسق فرعه ، ونبت زرعه ، فى أكرم موطن وأطيب معدن.
والقرآن مخالف لنحو هذه الطريقة مخالفته للشعر ، وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم.
وأما ما ذكروا من تقديم موسى على هارون عليهماالسلام فى موضع ، وتأخيره عنه فى موضع لمكان السجع ، ولتساوى مقاطع الكلام ، فليس بصحيح ، لأن الفائدة غير ما ذكروه.
وهى أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدى معنى واحدا من الأمر الصعب الذى تظهر فيه الفصاحة ، ونتبين فيه البلاغة ، وأعيد كثير من القصص فى مواضع على ترتيبات متفاوتة ، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا ، ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة فعبروا عنها بالفاظ لهم تؤدى معناها وتحويها ، وجعلوها بإزاء ما جاء به ، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به ، كيف وقد قال لهم : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).
فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات ، وتأخيرها إظهار الإعجاز على الطريقين جميعا دون التسجيع الذى توهموه.