يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي : رسولا ينذر أهلها ، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر ، فيخف عليك أعباء النبوة ، ولكنا لم نشأ ذلك ؛ فحملناك ثقل نذارة جميع القرى ، حسبما نطق به قوله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) ؛ لتستوجب بذلك الدرجة القصوى ، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء ، (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرتك على جميع الأنبياء فآثر رضاى على جميع الأهواء ، وكأنه نهى للرسول صلىاللهعليهوسلم عن المداراة معهم ، والتقصير فى الدعوة ؛ لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
قال القشيري : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي : كن قائما بحقّنا ، من غير أن يكون منك جنوح إلى غيرنا ، أو مبالاة بسوانا ، فإنّا نعصمك بكل وجه ، ولا نرفع عنك ظلّ عنايتنا بحال. ه.
(وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي : بالقرآن ؛ بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ ، وذكر أحوال الأمم الهالكة ، (جِهاداً كَبِيراً) ؛ عظيما موقعه عند الله ؛ لما يتحمل فيه من المشاق ، فإن دعوة كلّ العالمين ، على الوجه المذكور ، جهاد كبير ، أو : (جاهدهم به) ؛ بالشدة والعنف ؛ من غير مداداة ولا ملاينة ، فكبر الجهاد هو ملابسته بالشدة والعنف ، كقوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (٢). والله تعالى أعلم.
الإشارة : الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود ، فقلّ أن يجتمع منهم ، فى العصر الواحد ، ثلاثة أو أربعة فى الإقليم الكبير ؛ لأن الله تعالى لم يشأ ذلك بحكمته ، قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ، وكلما قلّ عددهم ، وعظم الانتفاع بهم ، عظم قدرهم ، فينبغى للمذكّر أن يذكّر كلّا بما يليق به ، فأهل العصيان ينبغى له أن يشدد فى الإنذار ، ولا يداريهم ولا يداهنهم. وأهل الطاعة ينبغى له أن يبشّرهم ويسهل الأمر عليهم ، وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «يسّروا ولا تعسّروا ، ويشّروا ولا تنفّروا» (٣) ، فيحتاج المذكّر إلى فطنة وفراسة ، حتى يعطى كل واحد ما يليق به ، ويخاطب كل واحد بما يطيقه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دليلا آخر على كمال قدرته ، فقال :
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا
__________________
(١) من الآية الأولى من سورة الفرقان.
(٢) من الآية ٧٣ من سورة التوبة ، والآية ٩ من سورة التحريم.
(٣) أخرجه البخاري فى (كتاب العلم ، باب : ما كان النبي صلىاللهعليهوسلم يتخولهم بالموعظة ، ح ٦٩) ومسلم فى (الجهاد والسير. باب الأمر بالتيسير وترك التنفير ، ٣ / ١٣٠٩ ، ح ١٧٣٤) من حديث أنس بن مالك ـ رضى الله عنه.