وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥))
قلت : أصل المرج : الخلط والإرسال ، ومنه قوله تعالى : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (١) ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : «كيف بك يا عبد الله إذا كنت فى حثالة من الناس ، قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، وصاروا هكذا ، وشبّك بين أصابعه» (٢). يقال : مرجت دابته وأمرجتها : إذا أرسلتها فى المرعى. ومنه قيل للروضة : مرج.
يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي : أرسلهما ، وخلّاهما متجاورين متلاصقين غير متمازجين. (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي : شديد العذوبة ، قامع للعطش ؛ لعذوبته ، أي : برودته ، (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) : بليغ الملوحة ، أو : هذا عذب لا ملوحة فيه ، وهذا ملح لا عذوبة فيه ، مع اتحاد جنسهما ، (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) ؛ حائلا بقدرته ، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ؛ لئلا يختلطا ، (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي : وسترا ممنوعا عن الأعين ، كقوله : (حِجاباً مَسْتُوراً) (٣) ، أي : جعل بينهما حاجزا خفيا ؛ لئلا يغلب أحدهما الآخر ، أو : سدا ممنوعا يمنعهما فلا يبغيان ، ولا يفسد الملح العذب ، ولو خلّا الله تعالى البحر الملح ، ولم يلجمه بقدرته ، لفاض على الدنيا ، واختلط مع العذب وأفسده.
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ) أي : النطفة (بَشَراً) ؛ إنسانا (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً). قسم البشر قسمين : ذوى نسب ، أي : ذكورا ، ينسب إليهم ، فيقال : فلان ابن فلان. وذوات صهر ، أي : إناثا يصاهر بهن ، فهو كقوله : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤). قال ابن جزى : والنسب : أن يجتمع إنسان مع آخر فى أب أو أمّ ، قرب ذلك أو بعد. والصهر : هو الاختلاط بالتناكح. ه. وعن على رضي الله عنه : النسب ما لا يحل نكاحه ، والصهر : ما يحل نكاحه. وعن الضحاك ومقاتل : النسب سبعة ، والصهر خمسة ، ثم قرأ هذه الآية : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٥). فالسبعة الأولى : نسب ، والباقي : صهر. ه. والأصح أن التسعة نسب ، والباقي صهر.
__________________
(١) من الآية ٥ من سورة ق.
(٢) أخرجه ابن حبان (الإحسان ٧ / ٥٧٥ ح ٥٩٢٠) عن أبى هريرة ، وأخرجه أحمد فى المسند (٢ / ١٦٢) ، وأبو داود فى (الملاحم ، باب الأمر والنهى ، ٤ / ٥١٣ ، ح ٤٣٤٢) وابن ماجه فى (الفتن ، باب التثبت فى الفتنة ، ٢ / ١٣٠٧ ح ٣٩٥٧) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٤٥ من سورة الإسراء.
(٤) من الآية ٣٩ من سورة القيامة.
(٥) من الآية ٢٣ من سورة النساء.