(وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) ؛ حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا ذا نوعين ، ذكرا وأنثى ، أو : حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة ، وجعله قسمين متقابلين ؛ ذكرا وأنثى.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، بعد هذا البرهان الواضح على توحيده ، (ما لا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه ، (وَلا يَضُرُّهُمْ) إن تركوه ، وهم الأصنام ، أو كل من عبد من دون الله ؛ إذ المخلوق كله عاجز ، (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ) ، الذي ذكر آثار قدرته ودلائل ربوبيته ، (ظَهِيراً) ؛ معينا ، يظاهر الشيطان ويعينه على الكفر والعصيان. والمعنى : أن الكافر ؛ بعبادة الصنم ، يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الرحمن. وقال ابن عرفة : أي : مظاهرا لأعداء الله على أولياء الله ، فتلك إعانته. ه.
الإشارة : مرج البحرين ؛ بحر الشريعة وبحر الحقيقة ، فبحر الشريعة عذب فرات ؛ لأنه سهل المدارك ، يناله الخاص والعام ، وبحر الحقيقة ملح أجاج ؛ لأنه لا يناله إلا من ذاق مرارة فطام النفس من هواها ، ومجاهدتها فى ترك مناها ، حتى تموت ثم تحيا ، فحينئذ تتلذذ بمشاهدة مولاها ، وتطيب حياتها فى أخراها ودنياها. فبحر الحقيقة صعب المرام ، لا يركبه إلا الشجعان ، وفى ذلك يقول صاحب العينية رضي الله عنه :
وإيّاك جزعا (١) لا يهولك أمرها |
|
فما نالها إلّا الشّجاع المقارع |
والبرزخ الذي جعل بينهما : نور العقل ، يميز بين محل الشرائع ومحل الحقائق ، فيعطى كل ذى حق حقه ، ويوفى كل ذى قسط قسطه.
ثم ذكر شأن الواسطة ، التي هى سبب لركوب البحرين ، فقال :
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))
يقول الحق جل جلاله : (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلَّا مُبَشِّراً) للمؤمنين (وَنَذِيراً) للكافرين ، (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) ؛ على تبليغ الرسالة (مِنْ أَجْرٍ) من جهتكم ، فتقولون : إنما يطلب محمد جمع أموالنا ، (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه طريقا توصله إليه ، بإنفاقه ماله فى سبيل الله ، فليفعل وليعطه لغيره. وقيل : الاستثناء متصل ، أي : لا أسألكم عليه أجرا ، إلا فعل من يريد أن يتقرب إليه
__________________
(١) فى العينية : حزما. انظر الديوان (ص ٧٨).