هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة شيئا ، حيث كانوا مع إشراكهم به ـ سبحانه ـ مداومين على قتل النفوس المحرمة ، التي من جملتها الموؤدة ، منكبّين على الزنا ، لا يرعوون عنه أصلا ، فنفى هذه الكبائر عن عباده الصالحين ؛ تعريضا بما كان عليه أعداؤهم ؛ من قريش وغيره ، كأنه قيل : والذين طهرهم الله مما أنتم عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : «قلت : يا رسول الله ؛ أىّ الذّنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ، قلت : ثمّ أىّ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت : ثمّ اىّ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك». فنزلت الآية تصديقا لذلك (١).
الإشارة : قد تضمنت الآية أربعة أصناف من الناس على سبيل التدلي ؛ الأول : الأولياء العارفون بالله ، أهل التربية النبوية ، ومن تعلق بهم من أهل التهذيب والتأديب ، وإليهم أشار بقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ ..). إلخ ، وفيهم قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «رأيت أقواما من أمتى ، ما خلقوا بعد ، وسيكونون فيما بعد اليوم ، أحبهم ويحبوننى ، ويتناصحون ويتباذلون ، يمشون بنور الله فى الناس رويدا ، فى خفية وتقى ، يسلمون من الناس ، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحملهم ، قلوبهم بذلك إليه يرجعون ، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون ، يرحمون ضعيفهم ، ويجلون كبيرهم ، ويتواسون بينهم ، يعود غنيهم على فقيرهم ، وقويهم على ضعيفهم ، يعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، فقال رجل من القوم : يرفقون برقيقهم؟ فالتفت إليه النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : كلا ؛ لا رقيق لهم ، وهم خدام أنفسهم ، هم أكرم على الله تعالى من أن يوسع عليهم ؛ لهوان الدنيا عند ربهم. ثم تلى النبي صلىاللهعليهوسلم : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ...) الآية. رواه أبو برزة الأسلمى ، عنه صلىاللهعليهوسلم.
الثاني : العباد والزهاد ، أهل الجد والاجتهاد ، أهل الصيام والقيام ، الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ، أقامهم الحق تعالى لخدمته ، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته. الثالث : الصالحون والأبرار ، الذين يعبدون الله طمعا فى الجنة وخوفا من النار ، ومن كان منهم له مال أنفقه فى سبيل الله ، من غير سرف ولا إقتار. الرابع : عامة الموحّدين من أهل اليمين ، المجتنبون لكبائر الذنوب ، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
ثم أشار إلى وبال من فعل شيئا من ذلك ولم يتب ، فقال :
(... وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ َ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (٧٠) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (٧١))
__________________
(١) أخرجه البخاري فى (التفسير ـ سورة الفرقان ، باب «والذين لا يدعون مع الله إلها آخر» ح ٤٧٦١) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب كون الشرك أقبح الذنوب ، ١ / ٩٠ ح ١٤١).