أي : أشفق على نفسك أن تقتلها ؛ حسرة على ما فاتك من إسلام قومك (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين ، (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) ، هو تعليل لما قبله من النهى عن التحسر ؛ ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة ، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته ، والمفعول محذوف ، أي : إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاهرة لهم عليه ، (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ؛ منقادين. والأصل : فظلوا لها خاضعين ، فأقمحت الأعناق ؛ لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع ، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء. وقيل : لمّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم ، كقوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١). وقيل : المراد بالأعناق : الرؤساء ومقدمو الجماعة ، وقيل : الجماعة ، من قولهم : جاءنا عنق من الناس ، أي : فوج. وقرئ : خاضعة ، على الأصل.
(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب ؛ لصرف رسوله صلىاللهعليهوسلم عن الحرص على إسلامهم ، وقطع رجائه فيهم على الجملة ، قال القشيري : أي : ما نجدّد لهم شرعا ، أو نرسل رسولا إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه ، وقابلوه بالتكذيب ، فلو أنهم أنعموا النظر فى آياتهم ، لا تضح لهم صدقهم ، ولكن المقسوم من الخذلان فى سابق الحكم يمنعهم من الإيمان والتصديق. ه.
والتعرض لعنوان الرحمة ؛ لتغليظ شناعتهم ، وتهويل جنايتهم ؛ فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عزوجل على الإطلاق شنيع قبيح ، وعما يأتيهم بموجب الرحمة ، لمحض منفعتهم ، أشنع وأقبح ، أي : ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية ، أو من طائفة نازلة من القرآن تذكّرهم أكمل تذكير ، وتنبههم من الغفلة أتم تنبيه ، بمقتضى رحمته الواسعة ، إلا جددوا إعراضا عنه ؛ على وجه التكذيب والاستهزاء ؛ إصرارا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال.
(فَقَدْ كَذَّبُوا) بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا مقارنا للاستهزاء ، (فَسَيَأْتِيهِمْ) أي : فسيعلمون (أَنْبؤُا) أي : أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، وأنباؤه : ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة ، عبّر عنها بالأنباء ؛ إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم ، وإما لأنهم ، بمشاهدتها ، يقفون على حقيقة القرآن الكريم ، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم ، باستماع الأنباء. وفيه تهويل : لأن الأنباء لا تطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير ، أي : فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزؤون به ، إما فى الدنيا ، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتوف ، أو يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) من الآية ٤ من سورة يوسف.