يقول الحق جل جلاله : لما أتى موسى وهارون فرعون وبلّغا الرسالة ، (قالَ) له : (أَلَمْ نُرَبِّكَ ..) إلخ ، روى أنهما أتيا بابه فلم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال : ائذن له ، لعلنا نضحك منه ، فأذن ، فدخل ، فأدى الرسالة ، فعرفه فرعون (١) ، فقال له : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) ؛ فى حجرنا ومنازلنا ، (وَلِيداً) أي : طفلا. عبّر عنه بذلك ؛ لقرب عهده بالولادة. وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليهالسلام : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، بنسبته تربيته إليه وليدا. ولذلك تجاهل بقوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي ...) إلخ ، (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ، ثم خرج إلى مدين ، وأقام به عشر سنين ، ثم عاد يدعوهم إلى الله ـ عزوجل ـ ثلاثين سنة ، ثم بقي بعد الغرق خمسين ، وقيل : قتل القبطي وهو ابن ثنتى عشرة سنة ، وفرّ منهم على إثر ذلك. والله أعلم.
ثم قال له : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعنى : قتل القبطي ، بعد ما عدد عليه نعمته ؛ من تربيته ، وتبليغه مبلغ الرجال ، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه ، أي : قتلت صاحبى ، (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي ، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصى ، أو : أنت حينئذ ممن تكفر بهم الآن ، أي : كنت على ديننا الذي تسميه كفرا ، وهذا افتراء منه عليه ؛ لأنه معصوم ، وكان يعاشرهم بالتقية ، وإلا فأين هو عليهالسلام من مشاركتهم فى الدين.
(قالَ فَعَلْتُها إِذاً) أي : إذ ذاك (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : من المخطئين ؛ لأنه لم يتعمد قتله ، بل أراد تأديبه ، أو : الذاهلين عما يؤدى إليه الوكز. أو : من الضالين عن النبوة ، ولم يأت عن الله فى ذلك شىء ، فليس علىّ توبيخ فى تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر ، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع ، وهذا كله لا ينافى النبوة ، وكذلك التربية لا تنافى النبوة.
(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) إلى ربى ، متوجها إلى مدين (لَمَّا خِفْتُكُمْ) أن تصيبنى بمضرة ، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي : حكمة ، أو : نبوة وعلما ، فزال عنى الجهل والضلالة ، (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ؛ من جملة رسله ، (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : تلك التربية نعمة تمنّ بها علىّ ظاهرا ، وهى فى الحقيقة تعبيدك بنى إسرائيل ، وقهرك إياهم ، بذبح أبنائهم ، فإنه السبب فى وقوعي عندك وحصولى فى تربيتك ، ولو تركتهم لربانى أبواى. فكأن فرعون فى الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليهالسلام : أو تلك نعمة تمنّها علىّ ؛ استعبادك لهم ، ليس ذلك بنعمة ، ولا لك فيها علىّ منة ، وتعبيده : تذليلهم واستخدامهم على الدوام. ووحد الضمير فى «تمنّها» و «عبّدت» ، وجمعها فى «منكم» و «خفتكم» ؛ لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملائه المؤتمرين به ، وأما الامتنان فمنه وحده.
__________________
(١) انظر البحر المحيط (٧ / ١٠).