وكان عبد الرحمن بن أبى نعيم لا يأكل فى الشهر إلا مرة ، فأدخله الحجاج بيتا ، وأغلق عليه بابه ، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما ، ولم يشك أنه مات ، فوجده قائما يصلى ، فقال : يا فاسق ، تصلى بغير وضوء؟ فقال : إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب ، وأنا على الطهارة التي أدخلتنى عليها. ه. ومكث سفيان الثوري بمكة دهرا ، وكان يسفّ من السبت إلى السبت كفا من الرمل. ه. وهذا من باب الكرامة ، فلا يجب طردها ، وقد تكون بالرياضة ، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دعاء إبراهيم عليهالسلام ، فقال :
(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن خليله إبراهيم عليهالسلام : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي : حكمة ، أو حكما بين الناس ، أو نبوة ؛ لأن النبي ذو حكم بين عباد الله. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي : الأنبياء ، الذين صلحوا لحمل أعباء النبوة والرسالة ، وصلحت سرائرهم للحضرة ، ولقد أجابه بقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي : ثناء حسنا ، وذكرا جميلا فى الأمم التي تجىء بعدي ، فأعطى ذلك ، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه ، ووضع اللسان موضع القول ؛ لأن القول يكون به. أو : واجعلنى على طريق قويم ، وحال مرضى ، يقتدى بي فيهما ، ويحمد أثرى بعد موتى ، كما قيل :
موت التقىّ حياة لا فناء لها |
|
قد مات قوم وهم فى الناس أحياء. |
وقد تحقق له جميع ذلك ، وخصوصا فى هذه الأمة ، حتى إنه مذكور ومقرون فى كل صلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال بعضهم : سأل أن يجعله صالحا ، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن كاذبا. وقيل : سأل الإمامة فى التوحيد والدين ، وقد أجيب بقوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (١) ه
(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي : اجعلنى وارثا من ورثة جنة النعيم ، أي : الباقين فيها ، (وَاغْفِرْ لِأَبِي) ، أي : اجعله أهلا للمغفرة ، بإعطاء الإسلام ؛ (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) : الكافرين ، أو : اغفر له على حاله.
__________________
(١) من الآية ١٢٤ من سورة البقرة.