وقيل : أشار إلى قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) (١) (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (٢) وقوله فى سارّة : «هى أختى» ؛ حذرا من الجبار. وفيه نظر ؛ لأنها مع كونها معاريض ، لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار ، إنما صدرت عنه عليهالسلام بعد هذه المقالة الجارية بينه وبين قومه فى أول أمره. وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، مع كونها إنما تغفر فى الدنيا ؛ لأن أثرها إنما يظهر يومئذ ، ولأن فى ذلك تهويلا له ، وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه ، إن لم يغفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى لك أيها العبد أن تكون إبراهيميا حنيفيا ، فتنبذ جميع الأرباب ، وتعادى كل من يشغلك عن محبة الحبيب ، من العشائر والأصحاب ، وتقول لمن عكف على متابعة هواه ، ولزم الحرص على جمع دنياه ، هو ومن تقدمه : أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدو لى إلا رب العالمين ، الذي خلقنى لعبوديته ، فهو يهدين إلى معرفته ، والذي هو يطعمنى طعم الإيمان واليقين والإحسان ، ويسقينى من شراب خمرة العيان ، وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفين بالتوبة ، أو : وإذا مرضت بشىء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها. أو : إذا مرضت برؤية السّوى ، فهو يشفين بالغيبة عنه ، والذي أطمع أن يطهرنى من البقايا ، ويجعلنى من المقربين يوم الدين. وقال ذو النون رضي الله عنه : يطعمنى طعام المعرفة ، ويسقينى شراب المحبة ، ثم قال :
شراب المحبّة خير الشّراب |
|
وكلّ شراب سواه سراب |
وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه : إن لله شرابا ، يقال له : شراب المحبة ، ادخره لأفاضل عباده ، فإذا شربوا سكروا ، وإذا سكروا طاشوا ، وإذا طاشوا طاروا ، وإذا طاروا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، فهم فى مقعد صدق عند مليك مقتدر. ه. قلت : شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة فى الله ، بدليل قول ابن الفارض رضي الله عنه :
فلم تهونى ما لم تكن فىّ فانيا |
|
ولم تفن ما لم تجتل فيك صورتى. |
وقال الجنيد رضي الله عنه : يحشر الناس يوم القيامة عراة ، إلا من لبس ثياب التقوى ، وجياعا إلا من أكل طعام المعرفة ، وعطاشا إلا من شرب شراب المحبة. ه. وقد يستغنى صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين ، كما قال صلىاللهعليهوسلم ، حين كان يواصل : «إنى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقين» (٣).
قال أبو بكر الوراق فى قوله تعالى : (الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي : يطعمنى بلا طعام ، ويسقينى بلا شراب. قال : ويدل عليه حديث السّقّاء فى عهد النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ حيث سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ ثلاثة أيام : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ، فرمى بقربته ، فأتاه آت فى منامه بقدح من شراب الجنة ، فسقاه ، قال أنس : فعاش بعد ذلك نيفا وعشرين سنة ، لم يأكل ولم يشرب على شهوة. ه.
__________________
(١) من الآية ٨٩ من سورة الصافات.
(٢) من الآية ٦٣ من سورة الأنبياء.
(٣) أخرجه البخاري فى (الصوم ، باب التنكيل لمن أكثر الوصال ، ح ١٩٦٥) ومسلم فى (الصيام ، باب النهى عن الوصال فى الصوم ، ٢ / ٧٧٤ ، ح ١١٠٣) من حديث أبى هريرة ، بدون لفظ «عند ربى» وجاء هذا اللفظ فى رواية عند الإمام أحمد فى المسند (٢ / ٢٥٣).