يقول الحق جل جلاله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ) أي : جمع له (جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) بمباشرة مخاطبيه ، فإنهم رؤساء مملكته ، وعظماء دولته ، من الثقلين وغيرهم. وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوه ملكه وعزة سلطانه ؛ لأن الجن طائفة عاتية ، وقبيلة طاغية ، ماردة ، بعيدة من الحشر والتسخير ، (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يحبس أوائلهم على أواخرهم ، أي : يوقف سلاف العسكر (١) حتى يلحقهم الثواني ، فيكونوا مجتمعين ، لا يختلف منهم أحد ، وذلك لكثرة العظمة والقهرية.
قال قتادة : فكان لكل صنف منهم وزعة (٢). أو : لترتيب الصفوف ، كما هو المعتاد فى العساكر. والوزع : المنع ، ومنه قول الحسن البصري ، حين ولى القضاء : (لا بد للحاكم من وزعة) أي : شرط يمنعون الناس من الظلم. وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر ، دون سوق أواخرهم ، مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا ؛ لأن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع ، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح فى الجو. قال محمد بن كعب : كان عسكر سليمان مائة فرسخ ، خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سرية. وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم ، فرسخا فى فرسخ ، وكان يوضع منبره فى وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه ، وحوله ستمائة ألف كرسى من ذهب وفضة ، فتقعد الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ على كراسى الذهب ، والعلماء على كراسى الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها ، حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، من الصباح إلى الرواح.
وروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تسيّره ، فأوحى الله تعالى إليه ، وهو يسير بين السماء والأرض : إنى زدت فى ملكك أنه لا يتكلم أحد بشىء إلا ألقته الريح فى سمعك. قال وهب : حدثنى أبى : أن سليمان مرّ بحرّاث ، فقال : لقد أوتى آل داود ملكا عظيما ، فالتفت ونزل إلى الحرّاث ، فقال : إنى سمعت قولك ، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير لك مما أوتى آل داود. ه.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) أي : فساروا حتى بلغوا وادي النمل ، وهو واد بالشام ، كثير النمل ، قاله مقاتل. أو : بالطائف ، قاله كعب. وقيل : هو واد يسكنه الجن ، والنمل مراكبهم (٣). وعدى الفعل ب «على» ؛ لأن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء. ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي ؛ إذ حينئذ يخافهم من فى
__________________
(١) سلاف العسكر : متقدموهم.
(٢) ذكره البغوي فى التفسير (٦ / ١٤٩).
(٣) انظر التعليق التالي.