وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر ، ولم يقل : ظننتم بأنفسكم خيرا ، وقلتم ؛ ليبالغ فى التوبيخ بطريق الالتفات ، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسىء الظن بأحد من المؤمنين.
(وَقالُوا) عند سماع هذه الفرية : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) ؛ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق. (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ؛ هلّا جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) ، ولم يقل : «بهم» ؛ لزيادة التقرير ، (فَأُولئِكَ) الخائضون (عِنْدَ اللهِ) أي : فى حكمه وشرعه (هُمُ الْكاذِبُونَ) ؛ الكاملون فى الكذب ، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : حسن الظن بعباد الله من أفضل الخصال عند الله ، ولا سيما ما فيه حرمة من حرم الله. قال القشيري على الآية : عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وترك الإعراض عن حرمة بيت نبيهم. ثم قال : وسبيل المؤمن ألا يستصغر فى الوفاق طاعة ، ولا فى الخلاف زلّة ، فإنّ تعظيم الأمر بتعظيم الآمر ، وإن الله لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه ، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فذلك أعظم عند الله ، ولذلك بالغ فى التوبيخ على ما أقدموا عليه ، مما تأذى به الرسول ، وقلوب آل الصدّيق ، وقلوب المخلصين من المؤمنين. ه
ثم قال تعالى :
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨))
قلت : (لو لا) هنا : امتناعية بخلاف المتقدمة ؛ فإنها تحضيضية ، و (إذ سمعتموه) : معمول لقلتم ، و (إذ تلقونه) : ظرف لمسّكم.
يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها السامعون (وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا) ؛ من فنون النعم ، التي من جملتها : الإمهال والتوبة ، (وَ) فى (الْآخِرَةِ) ؛ من ضروب الآلاء ، التي من جملتها : العفو