باب مغلق. واستصغر الهدهد حالها إلى حال سليمان ، فلذلك عظّم عرشها. وقد أخفى الله تعالى ذلك على سليمان ؛ لحكمة ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ، ليتحقق ضعف العبودية فى جانب علم الربوبية.
وكانت بلقيس مجوسية ، فلذلك قال : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : يعبدونها متجاوزين عبادة الله. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي هى عبادة الشمس ، ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي ، (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) ؛ عن سبيل الرشد والصواب ، وهو التوحيد (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إليه. ولا يبعد من الهدهد التهدّى إلى معرفة الله ، ووجوب السجود له ، وحرمة السجود للشمس ، إلهاما من الله له ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة ، التي لا يكاد العقلاء ، الراجحة العقول ، يهتدون إليها. وهذا من أسرار الربوبية ، التي سرت فى الأشياء ، فوحّدت الله تعالى ، ولهجت بحمده.
(أَلَّا يَسْجُدُوا) بالتشديد ، أي : فصدّهم عن السبيل لئلا ، فحذف الجار ، أي : لأجل ألا يسجدوا لله. ويجوز أن تكون «لا» مزيدة ، أي : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. وقرئ : هلا يسجدون. ومن قرأ بالتخفيف (١). فالتقدير عنده : ألا يا هؤلاء ؛ اسجدوا ، فألا للتنبيه ، والمنادى محذوف ، فمن شدّد لم يقف على (يَهْتَدُونَ) ، ومن خفف وقف ثم استأنف : ألا يا هؤلاء اسجدوا (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) ؛ الشيء المخبوء المستور (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال قتادة : خبء السموات : المطر ، وخبء الأرض : النبات. واللفظ أعم من ذلك ، (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (٢) عطف على «يخرج» إشارة إلى أنه تعالى يخرج ما فى العالم الإنسانى من الخفايا ، كما يخرج ما فى العالم الكبير من الخبايا.
(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو أول الأجرام وأعظمهما. ووصف الهدهد عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. وفى الخبر : «إن السموات والأرض فى جانب العرش كحلقة فى فلاة» ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك. هذا آخر كلام الهدهد. ثم دلهم على الماء فحفروا وشربوا ، وملأوا الركايا ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : هدهد كل إنسان نفسه ، فإذا تفقدها فوجدها غائبة عن الله ، فى أودية الغفلة ، هدهد بالعذاب الشديد ، وبذبحها بأنواع المخالفة ، حتى تأتيه بحجة واضحة ، تعذر بها ، فإن لم تأت بحجة عذّبها وذبحها ، بإدخالها فى كل ما تكره ويثقل عليها ، فتمكث غير بعيد ، فتأتيه بالعلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، التي لم يحط بها علما قبل ذلك ، وتجيئه بالخبر اليقين ، فى العلم بالله ، من عين اليقين ، أو حق اليقين ، فتخبره عن أحوال عامة أهل الحجاب ،
__________________
(١) قرأ أبو جعفر ، والكسائي : (ألا يسجدوا) بالتخفيف. وقرأ الباقون (ألّا) بالتشديد.
(٢) قرأ حفص ، والكسائي : (ما تخفون وما تعلنون) بالتاء على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء. انظر الإتحاف (٢ / ٣٢٦).