فتقول : إنى وجدت امرأة تملكهم ، وهى نفسهم الأمارة ، وأوتيت من كل شىء تشتهيه وتهواه ، من غير وازع ولا قامع ، ولها عرش عظيم ، وهو سرير الغفلة والانهماك فى حب الدنيا والشهوات. أو : لها تسلط كبير على من ملكته ، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى ، ويخضعون للهوى من دون الله ، وزيّن لهم الشيطان ذلك ، فصدهم عن طريق الوصول ، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبدا ما داموا كذلك ؛ لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك. ألا يسجدوا بقلوبهم لله وحده ، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار ، وعلى ما يسرون من الإخلاص ، وما يعلنون من الأعمال ، التي توجب الاختصاص. وبالله التوفيق.
ولما سمع سليمان كلام الهدهد أرسله بكتابه إلى بلقيس ، كما قال تعالى :
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤))
يقول الحق جل جلاله : (قالَ) سليمان للهدهد : (سَنَنْظُرُ) أي : نتأمل فيما أخبرت ، فنعلم (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) ، وهو أبلغ من : أكذبت ؛ لأنه إذا كان معروفا بالانخراط فى سلك الكاذبين كان كاذبا ، لا محالة ، وإذا كان كاذبا اتّهم فيما أخبر به ، فلا يوثق به ، ثم كتب : من عبد الله ، سليمان بن داود ، إلى بلقيس ملكة سبأ ؛ بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فلا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين. قال منصور : كان سليمان أبلغ الناس فى كتابه ، وأقلهم كلاما فيه. ثم قرأ : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ...) إلخ ، والأنبياء كلهم كذلك ، كانت تكتب جملا ، لا يطيلون ولا يكثرون. وقال ابن جريج : لم يزد سليمان على ما قال الله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ...) إلخ. ثم طيّبه بالمسك ، وختمه بخاتمه (١) ، وقال للهدهد : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ)
__________________
(١) ذكره البغوي فى التفسير (٦ / ١٥٨).