الحقّ ، واثقب الدرّة ثقبا مستويا ، واسلك فى الخرزة خيطا. ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضب فهو ملك ، فلا يهولنك منظره ، وإن رأيته لينا لطيفا فهو نبىّ (١).
فأقبل الهدهد ، فأخبر سليمان الخبر كله ، فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة ، وفرشوها فى الميدان بين يديه ، طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطا ، شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب فى البر والبحر ، فربطوها عن يمين الميدان ويساره ، على اللبنات. وأمر بأولاد الجن ـ وهم خلق كثير ـ فأقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره ، والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ ، والإنس صفوفا فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم ، ونظروا ، بهتوا ، ورأوا الدواب تروث على اللبن ، فتقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا بما معهم من الهدايا.
ولما وقفوا بين يديه ، نظر إليهم سليمان بوجه طلق ، فأعطوه كتاب الملكة ، فنظر فيه ، فقال : أين الحق؟ فأتى به ، فحرّكه ، وأخبره جبريل عليهالسلام بما فيه. فقال لهم : إن فيه كذا وكذا. ثم أمر بالأرضة فأخذت شعرة ، ونفذت فى الدرّة ، فجعل رزقها فى الشجر. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ، ونفذت فى ثقب الجزعة ، فجعل رزقها فى الفواكه. ودعا بالماء ، وأمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله فى الأخرى ، ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه فميزهم بذلك. ثم ردّ الهدية.
ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي : جاء رسولها المنذر بن عمرو إليه (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) ، توبيخ وإنكار لإمدادهم إياه بالمال ، مع علو شأنه وسعة سلطانه. والتنكير للتحقير ، والخطاب للرسول ومن معه ، أو للرسول والمرسل تغليب للحاضر. (فَما آتانِيَ اللهُ) من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي : من المال الذي من جملته ما جئتم به ، فلا حاجة لى إلى هديتكم ، ولا وقع لها عندى ، ولعله عليهالسلام إنما قال لهم هذه المقالة .. إلخ بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكى من قصة الحقّ وغيرها ، لا أنه عليهالسلام خاطبهم بها أول ما جاءوه.
ثم قال لهم : (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ). الهدية : اسم للمهدى ، كما أن العطية اسم للمعطى ، فتضاف إلى المهدى والمهدى له. والمعنى : أن ما عندى خير مما عندكم ، وذلك أن الله تعالى آتاني الدين والمعرفة به ، التي هى الغنى الأكبر ، والحظ الأوفر ، وأتانى من الدنيا ما لا يستزاد عليه ، فكيف يرضى مثلى بأن يمد بمال من قبلكم؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويهدى إليكم ؛ لأنّ ذلك مبلغ همتكم ، وحالى خلاف ذلكم ، فلا أرضى منكم بشىء ، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم ، وترك ما أنتم عليه من المجوسية. والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم ، كأنه قيل : أنا لا أفرح بما تمدوننى به بل أنتم.
__________________
(١) قال العلامة ابن كثير ، بعد ذكره لهذه الروايات : والله أعلم أكان ذلك أم لا ، وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات. انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٣٦٣).