ثم قال للرسول : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) ؛ إلى بلقيس وقومها ، وقل لهم : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ) : لا طاقة (لَهُمْ بِها). وحقيقة القبل : المقابلة والمقاومة ، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم ، (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) أي : من سبأ (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) : أسارى مهانون. فالذل : أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار : أن يبقوا فى أسر واستعباد. فلما رجع إليها رسولها بالهدايا ، وقصّ عليها القصة ، قالت : هو نبى ، ومالنا به طاقة. ثم تجهزت للقائه ، على ما يأتى إن شاء الله.
الإشارة : إذا توجه المريد إلى مولاه ، توجهت إليه نفسه بأجنادها ، وهى الدنيا ، والجاه ، والرئاسة ، والحظوظ ، والشهوات ، فتمده أولا بمال وجاه ، تختبره ، فإن علت همته ، وقويت عزيمته ، أعرض عن ذلك وأنكره ، وقال : أتمدوننى بمال حقير ، وجاه صغير ، فما آتاني الله من معرفته والغنى به خير مما آتاكم. ثم يقول للوارد بذلك : ارجع إليهم ـ أي : للنفس وجنودها ـ فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قبل لهم بها ، ولنخرجنهم منها ـ أي : قرية القلب ـ أذلة وهم صاغرون. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم ذكر إتيان عرشها قبل إتيانها ، فقال :
(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))