أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقى فيه السمك وغيره ، ووضع سريره فى صدره ، فجلس عليه ، وعكف عليه الطير والجن والإنس. وإنما فعل ليزيدها استعظاما لأمره ، وتحقيقا لنبوته. وقيل : إن الجن كرهوا أن يتزوجها ، فتفضى إليه بأسرارهم ؛ لأنها كانت بنت جنّية. وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد ، فيجتمع له فطنة الجن والإنس ، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك أشدّ منه ، فقالوا له : إن فى عقلها شيئا ، وهى شعراء الساقين ، ورجلها كحافر الحمار ، فاحتبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقيها ورجلها (١) فكشفت عنهما ، فإذا هى أحسن الناس ساقا وقدما ، إلا أنها شعراء ، وصرف بصره. ثم (قالَ) لها : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) ؛ مملس مستو. ومنه : الأمرد ، للذى لا شعر فى وجهه ، (مِنْ قَوارِيرَ) ؛ من الزجاج ، وأراد سليمان تزوجها ، فكره شعرها ، فعملت له الشياطين النورة ، فنكحها سليمان ، وأحبها ، وأقرها على ملكها ، وكان يزورها فى الشهر مرة ، فيقيم عندها ثلاثة أيام ، وولدت له ، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان عليهالسلام ، فسبحان من لا انقضاء لملكه.
روى أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. ه.
ثم ذكر إسلامها ، فقال : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادة الشمس ، (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) تابعة له ، مقتدية به ، (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وفيه الالتفات إلى الاسم الجليل ، ووصفه بربوبيته للعالمين ؛ لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى ، وتفرده باستحقاق العبادة ، وربوبيته لجميع الموجودين ، التي من جملتها : ما كانت تعبد قبل ذلك من الشمس. والله تعالى أعلم.
الإشارة : عرش النفس الذي تستقر عليه هو الدنيا ، فمن أحب الدنيا وركن إلى أهلها ، فقد أجلس نفسه على عرشها ، وصيّرها مالكة له ، متصرفة فيه بما تحب ، ومن أبغض الدنيا وزهد فى أهلها ، فقد هدم لها عرشها ، وصارت خادمة مملوكة له ، يتصرف فيها كيف يشاء. فيقول الداعي إلى الله ـ وهو من أهّله الله للتربية ـ للمريدين : أيكم يأتينى بعرشها ، ويخرج عنها لله فى أول بدايته؟ فمنهم من يأتى بها بعد مدة ، ومنهم من يأتى بها أسرع من طرفة ، على قدر القوة والعزم والصدق فى الطلب ، ومن أتى بعرش نفسه ، وخرج عنها لله ، فهو الذي آتاه الله علما
__________________
(١) الواضح أن سليمان ، عليهالسلام أراد ببناء الصرح : أن يريها عظمة ملكه وسلطانه ، وأن الله أعطاه من الملك ما لم يعطها ، فضلا عن النبوة ، التي هى فوق الملك ، وحاشا لسليمان ـ وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكما ، يوافق حكمه ، فأوتيه ، أن يحتال لينظر إلى ساقيها ، وهى أجنبية. وما نقل من روايات إنما هو من الإسرائيليات المكذوبة ، لا يصح القول بها.
قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره : (٣ / ٣٦٦) معقبا على رواية لابن أبى شيبة ، فى هذا الشأن : والأقرب فى مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد فى صحفهم ـ كروايات كعب ووهب ـ سامحهما الله تعالى ، فيما نقلاه إلى هذه الأمة ، من أخبار بنى إسرائيل ، من الأوابد ، والغرائب ، والعجائب ، مما كان ، ومما لم يكن ، ومما حرّف ، وبدل ، ونسخ ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك ، بما هو أصح منه وأنفع وأوضح ، ولله الحمد والمنة.