يقول الحق جل جلاله : (وَ) لقد أرسلنا (لُوطاً) ، أو : واذكر لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) أي : وقت قوله لهم : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي : الفعلة المتناهية فى الفحش والسماجة ، (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي : والحالة أنكم تعلمون علما يقينيا أنها فاحشة ، لم تسبقوا إليها. والجملة الحالية تفيد تأكيد الإنكار ، فإنّ تعاطى القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع ، ولذلك ورد فى الخبر : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه» (١). وقال الفخر : لا تصدر المعصية من العالم قط وهو عالم ، وحين صدورها منه هو جاهل ؛ لأنه رجح المرجوح ، وترجيح المرجوح جهل ، ولذلك قال : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). ه. وفى الحديث : «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن» (٢). إذ لو صدّق باطلاع الحق عليه ما قدر على الزنى ، لكنه جهل ذلك. و (تُبْصِرُونَ) ، من : بصر القلب. وقيل : يبصر بعضكم بعضا ؛ لأنهم كانوا يرتكبونها فى ناديهم ، معلنين بها ، لا يستتر بعضهم من بعض ، مجانة وانهماكا فى المعصية ، أو : تبصرون آثار العصاة قبلكم ، وما نزل بهم.
(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) أي : للشهوة (مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي : إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر ، ولم يخلق الذكر للذكر ، ولا الأنثى للأنثى ، فهى مضادة لله تعالى فى حكمته ، فلذلك كانت أشنع المعاصي ، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ؛ تفعلون فعل الجاهلين بقبحها ، أو : تجهلون العاقبة. أو : بمعنى السفاهة والمجون ، أي : بل أنتم سفهاء ماجنون. والتاء فيه ـ مع كونه صفة لقوم ؛ لكونهم فى حيز الخطاب. وكذا قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٣) ، غلّب الخطاب على الغيبة. قال ابن عرفة : «بل» : للانتقال ، والانتقال فى باب الذم إنما يكون عن أمر خفيف إلى ما هو أشد منه ، وتقرير الأشدّية هنا : أن المضروب عنه راجع للقوة الحسية العملية ، وهى منقطعة تنقضى بانقضاء ذلك الفعل ، والثاني راجع للقوة العلمية ، وهى دائمة ؛ لأن العلم بالشيء دائم ، والعمل به منقطع غير دائم. ه.
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) حين نهاهم عن تلك الفاحشة ودعاهم إلى الله ، (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أي : لوطا ومتبعيه (مِنْ قَرْيَتِكُمْ ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) ؛ يتنزهون عن أفعالنا ، أو : عن القاذورات ، ويعدون فعلنا قذرا. وعن ابن عباس : إنه استهزاء ، كقوله : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٤).
__________________
(١) رواه الطبراني فى المعجم الصغير (١ / ١٨٢ ـ ١٨٣) والبيهقي فى الشعب (ح ٧٧٧٨) ، من حديث أبى هريرة ـ رضي الله عنه. والحديث ضعّفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٠٥٣).
(٢) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (المظالم ، باب النّهبى بغير إذن صاحبها ، ح ٢٤٧٥) ومسلم فى (الإيمان ، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ١ / ٧٦ ح ١٠٠) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٤٧ من سورة النمل.
(٤) الآية ٨٧ من سورة هود.