العباد لا يعلمون الغيب ، وكان هذا بيانا لعجزهم ، ووصفا لقصور علمهم ، وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه ، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه ـ وهو وقت بعثهم ، ومجازاتهم على أعمالهم : لا يكون ، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه ، لا محالة. ه. قاله النسفي.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي : أنخرج من القبور أحياء إذا صرنا ترابا وآباؤنا. وتكرير الاستفهام فى «أئذا» و «أإنا» فى قراءة عاصم ، وحمزة ؛ وخلف ، إنكار بعد انكار ، وجحود بعد جحود ، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والعامل فى (إذا) : ما دلّ عليه (لَمُخْرَجُونَ) وهو : نخرج ، لا مخرجون ، لموانع كثيرة. والضمير فى «أإنا» لهم ولآبائهم.
(لَقَدْ وُعِدْنا هذا) البعث (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) ؛ من قبل محمد صلىاللهعليهوسلم ، قدّم هنا «هذا» على «نحن» وفى المؤمنون (١) قدّم «نحن» ؛ ليدل هنا أن المقصود بالذكر هو البعث وثمّ المبعوث ؛ لأن هنا تكررت أدلة البعث قبل هذا القول كثيرا ، فاعتنى به ، بخلاف «ثم». ثم قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم. وقد كذبوا ، ورب الكعبة.
الإشارة : العلم بالآخرة يقوى بقوة العلم بالله ، فكلما قوى اليقين فى جانب الله قوى اليقين فى جانب ما وعد الله به ؛ من الأمور الغيبية ، فأهل العلم بالله الحقيقي أمور الآخرة عندهم نصب أعينهم ، واقعة فى نظرهم ؛ لقوة يقينهم. وانظر إلى قول حارثة رضي الله عنه حين قال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما حقيقة إيمانك؟» فقال : يا رسول الله ؛ عزفت الدنيا من قلبى ، فاستوى عندى ذهبها ومدرها. ثم قال : وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وأهل النار يتعاوون فيها ، فقال له صلىاللهعليهوسلم : «قد عرفت فالزم ، عبد نوّر الله قلبه». اللهم نوّر قلوبنا بأنوار معرفتك الكاملة ، حتى نلقاك على عين اليقين وحق اليقين. آمين.
ثم أمرهم بالاعتبار بمن قبلهم ، فقال :
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
__________________
(١) فى قوله تعالى ، حكاية لقول الذين لا يؤمنون بالآخرة : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ..) الآية ٨٣.