صارت مساوئه محاسن ، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت ، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفى الحديث : «إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب» (١).
قال فى القوت : واعلم أن مسامحة ، الله عزوجل لأوليائه ـ يعنى : فى هفواتهم ـ فى ثلاث مقامات : أن يقيمه مقام حبيب صديق ، لما سبق من قدم صدق ، فلا تنقصه الذنوب ؛ لأنه حبيب. المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه ، بإجلال وتعظيم ، فيسمح له ، وتصغر ذنوبه ؛ للإجلال والمنزلة ، ولا يمكن كشف هذا المقام ، إلا أنّا روينا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنه ذكر طائفة فقال : «يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم». المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار ، والاعتراف بالذنب والإكثار ، فإذا نظر حزنه وهمه ، ورأى اعترافه وغمه ، غفر له ؛ حياء منه ورحمة. ه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر توجه موسى إلى مدين ، واتصاله بشعيب ـ عليهماالسلام ـ فقال :
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ) موسى (تِلْقاءَ مَدْيَنَ) ؛ نحوها وجهتها. ومدين : قرية شعيب ، سميت بمدين بن إبراهيم ، كما سميت المدائن باسم أخيه مدائن ، ويقال له أيضا : «مدان بن إبراهيم» ، ولم تكن مدين فى سلطان فرعون ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام ، ولعله إنما لم يتسلط عليها ؛ لما وصله من خبر إهلاك أهلها لما طغوا على أنبيائهم ، فخاف على نفسه. قال ابن عباس : خرج موسى ، ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه.
(قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي : وسطه ونهجه. فلما خرج ، عرض له ثلاث طرق ، فأخذ فى أوسطها ، وجاء الطلاب عقبه ، فأخذوا فى الآخرين. روى أن ملكا جاءه على فرس بيده عنزة ، فانطلق به إلى
__________________
(١) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ٢ / ٧٧ ح ٤٢٣٢) من حديث أنس. ولفظه : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب» وزاد الزبيدي عزوه فى إتحاف السادة المتقين (٩ / ٦٠٩) لابن النجار فى تاريخه.