ثم قال تعالى : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ، أي : نودى : أن ألق عصاك ، فألقاها ، فقلبها الله ثعبانا ، (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) ؛ تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) ؛ حية رقيقة. فإن قيل : كيف قال فى موضع : (كأنها جان) ، وفى أخرى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١)؟ قلت : هى فى أول أمرها جان ، وفى آخر أمرها ثعبان ؛ لأنها كانت تصير حية على قدر العصا ، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان ، أو : يريد فى سرعة الجان وخفته ، وفى قوة الثعبان. فلما رآها كذلك (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ؛ ولم يرجع عقبه. فقيل له : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) ، أي : أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
و (اسْلُكْ) : أدخل (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) ؛ جيب قميصك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها شعاع كشعاع الشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ؛ برص. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) ، أي : الخوف ، فيه لغات : «الرّهب» ، بفتحتين ، وبالفتح والسكون ، وبالضم معه ، وبضمتين. والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك ؛ يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : (كل خائف ، إذا وضع يده على صدره ، ذهب خوفه) (٢). وقيل : المراد بضم يده إلى جناحه تجلده ، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف ؛ نشر جناحيه وأرخاهما.
(فَذانِكَ) أي : اليد والعصا ، ومن شدد ؛ فإحدى النونين عوض من المحذوف ، (بُرْهانانِ) أي : حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهانا ؛ لإنارتها ، من قولهم : بره الشيء : إذا ابيض ، والمرأة برهاء وبرهرهة : أي : بيضاء. (مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) : خارجين عن الحق ، كافرين بالله ورسوله.
الإشارة : قد تقدم فى سورة «طه» (٣) بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد ، بعد كمال تربيته ، كمال ، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه ؛ فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. قوله تعالى : (وَسارَ بِأَهْلِهِ) ؛ قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. ه. وقوله تعالى : (آنَسْتُ ناراً) ؛ قال الورتجبي : الحكمة فى ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة ، لذلك تجلى النور فى النار ؛ لاستئناسه بلباس [الاستئناس] (٤) ، ولا تخلو النار من الاستئناس ، خاصة فى الشتاء ، وكان شتاء ، فتجلى الحق بالنور فى لباس النار ؛ لأنه كان فى طلب النار ، فأخذ الحق مراده ، وتجلى من حيث إرادته ، وهو سنة الله تعالى. ه.
__________________
(١) من الآية ١٤٣ من سورة الأعراف.
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ٢٠٧).
(٣) راجع المجلد الثالث ، ص : ٣٨٢ ـ ٣٨٣.
(٤) فى الورتجبي : «الالتباس».