والأمر كذلك عند التحقيق ؛ فإنّ اختيار العبد مخلوق لله ، منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقيل : المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه ، فلذلك خلا عن العاطف ، يعنى قوله : (ما كانَ ..) إلخ ، ويؤيده : ما روى أنه نزل فى قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١) ه. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي : ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئا ما ، وله الخيرة عليهم. والخيرة : من التخير ، تستعمل مصدرا بمعنى التخير ، وبمعنى المتخيّر ، ومنه : محمد خيرة الله من خلقه ، ولم يدخل العاطف فى (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ؛ لأنه مقرر لما قبله ، وقيل : «ما» : موصولة ، مفعول بيختار ، والراجع إليه : محذوف ، أي : ويختار الذي كان لهم منه الخيرة والصلاح. ه. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلا إلى الاعتزال ، ويجاب : بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب ، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
(سُبْحانَ اللهِ) ، أي : تنزيها له عن أن ينازعه أحد ، أو يزاحم اختياره اختيار. (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، أي : تعاظم عن إشراكهم ، أو : عن مشاركة ما يشركون به.
(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُ) : تضمر (صُدُورُهُمْ) من عداوة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وحسده ، (وَما يُعْلِنُونَ) من مطاعنهم فيه ، وقولهم : هلّا اختير عليه غيره فى النبوة. (وَهُوَ اللهُ) المستأثر بالألوهية المختص بها ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، تقرير له ، كقولك : الكعبة قبلة ، لا قبلة إلا هى. (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) أي : فى الدنيا ، (وَالْآخِرَةِ) ؛ لأنه المولى للنعم كلها ، عاجلها وآجلها ، يحمده المؤمنون فى الدنيا ، ويحمدونه فى الآخرة بقولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (٢) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٣) ، (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤) ، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. (وَلَهُ الْحُكْمُ) ؛ القضاء بين عباده ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالبعث والنشور. وبالله التوفيق.
الإشارة : فى الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار ، مع تدبير الواحد القهار ، وهو أصل كبير عند أهل التصوف ، أفرد بالتأليف ، وفى الحكم : «أرح نفسك من التدبير ، فما قام به غيرك عنك ؛ لا تقم به أنت عن نفسك». وقال سهل رضي الله عنه : ذروا التدبير والاختيار ، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه : ذروا التدبير ، وإن كان ولا بد من التدبير ، فدبروا ألا تدبروا. ه.
والتدبير المذموم : هو ما فيه للنفس حظ ، كتدبير أسباب الدنيا ، وما تحصل بها من شهواتها ، إذا صحبه عزم أو تكرير ، وأمّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة ، أو لم يصحبه تصميم ؛ بأن كان عزمه محلولا ،
__________________
(١) الآية ٣١ من سورة الزخرف ، وانظر تفسير البغوي (٦ / ٢١٨)
(٢) من الآية ٣٤ من سورة فاطر.
(٣) من الآية ٧٤ من سورة الزمر.
(٤) الآية ٧٥ من سورة الزمر.