أو علقه بمشيئة الله ، أو كان خاطرا غير ساكن ، فلا بأس به. قال القشيري ـ بعد كلام فى وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى : لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العزّ ؛ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلا ، والاختيار للحق نعت عز ، والاختيار للخلق صفة نقص ، ونعت ملام وقصور ، فاختيار العبد عليه غير مبارك له ؛ لأنه صفة غير مستحقّ لها ، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح ، قال قائلهم :
ومعان إذا ادّعاها سواهم (١) |
|
لزمته جناية السّرّاق |
والطينة إذا ادّعت صفة للحقّ أظهرت رعونتها ، فما للمختار (٢) والاختيار؟! وما للملموك والملك؟! وما للعبيد فى دست الملوك؟! قال تعالى : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ). ه. وقال آخر فى هذا المعنى :
العبد ذو ضجر ، والربّ ذو قدر |
|
والدهر ذو دول ، والرزق مقسوم |
والخير أجمع : فيما اختار خالقنا |
|
وفى اختيار سواه : اللوم والشّوم. |
فإذا علمت ، أيها العبد ، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ، لم يبق لك مع الله اختيار ، فالحالة التي أقامك فيها هى التي تليق بك ، ولذلك قيل : العارف لا يعارض ما حلّ به ، فقرا كان أو غنى (٣). قال اللجائى فى
__________________
(١) فى القشيري : ومعان إذا ادعاها سواه ...
(٢) أي : الذي اختاره الله ..
(٣) قلت : هذه منزلة ، وهناك منزلة أعلى وأحلى ، نفهمها إذا قررنا أصلا ، وهو : أن حكم الله واختياره ، ثلاثة أنواع :
الأول : حكم الله الديني ، الشرعي ، واختياره ، ومراده الديني .. وهذا موقفنا منه الخضوع والتسليم ، والرضا والقبول ، والعمل.
الثاني : حكم الله الكونى ، القدري ، الذي لا اختيار لنا فيه ، كمصيبة الموت ، وجائحة فى مال ، وإذاية ظالم لا نقدر عليه ، وما أشبه ذلك ، وهذا موقفنا منه التسليم ، والصبر ، وفوقه : الرضا بهذا القضاء ، الذي لا اختيار لنا فيه.
الثالث : حكم الله الكونى القدري ، واختياره الكونى القدري ـ الذي لنا فيه قدرة واختيار ، كمرض يمكن دفعه بالدواء ، وفقر يمكن دفعه بالتكسب وطلب الغنى ، وهزيمة يمكن دفعها بالجهاد والكفاح .. إلخ ، وهذا موقفنا منه : هو المنازعة ، والمبالغة ، والمدافعة ، وانتبه معى لقول سيدنا عبد القادر الجيلاني ـ الشيخ القدوة ، العارف ، قال ما ملخصه : (الناس إذا ذكر القدر أمسكوا ، إلا أنا ، فقد انفتحت لى فيه روزنة [طاقة ـ نافذة] فنازعت أقدار الحق ، بالحق ، للحق). فهذا فى النوع الثالث من حكم الله واختياره ، ننازعه ، بالحق ، للحق ، والشيخ القدوة ، لم يبتدع ذلك ، وحاشاه ، رحمهالله وقدس روحه ـ بل هو انتزعه من حديث نبوى شريف ، أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٤٢١) والترمذي فى (الظب ، باب ٢١ ، ٤ / ٣٤٩ ، ح ٢٠٦٥) وابن ماجه فى (الطب ، باب ١ ، ٢ / ١١٣٧ ، ح ٣٤٣٧) من حديث أبى خزامة قال : سئل النبي صلىاللهعليهوسلم : أرأيت [يعنى : أخبرنا عن] ـ رقىّ نسترقيها ، وأدوية نتداوى بها : أترد من قدر الله؟ قال : «هي من قدر الله» الله أكبر : فقدر المرض ، ننازعه بقدر العلاج والدواء ، وقدر الفقر المالى ننازعه بقدر الكسب وإصلاح المال ، وقدر الهزيمة ننازعه بقدر الجهاد والاستعداد ، وقدر التخلف الحضارى ننازعه بقدر الفعالية الحضارية ، وقدر انتشار الوباء كالطاعون ، والكوليرا ـ ننازعه بقدر الاحتماء ، والتطعيم العام .. إلخ ، كما فعل سيدنا عمر : مع طاعون الشام ، فلم يدخل الشام ـ عند ما سمع بانتشار الطاعون فيها ، وكان ذاهبا إليها ، فقيل له : أتفر من قدر الله؟! قال : (نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فالمؤمن العارف يصول بالحق للحق.