والرضا بها ، والذهول عن ذهابها ، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة ، يوجب التوخي (١) لا محالة ، كما قيل :
أشدّ الغمّ عندى فى سرور |
|
تيقّن عنه صاحبه انتقالا |
(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) من المال والثروة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) ؛ بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم ، وتصرفه فى أنواع الخير ، (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك. وقيل : معناه : واطلب بدنياك آخرتك ؛ فإن ذلك حظ المؤمن منها ؛ لأنها مزرعة الآخرة ، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات ، أي : لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة ، (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) فيما أنعم به عليك ، أو : أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام ، كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بالظلم والبغي وإنفاق المال فى المعاصي ؛ (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ؛ لا يرضى فعلهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها ، بل الفرح بكل ما يفّنى : كلّه مذموم. قال فى الإحياء : الفرح بالدنيا والتنعم بها سمّ قاتل ، يسرى فى العروق ، فيخّرج من القلب الخوف والحزن ، وذكر الموت وأهوال يوم القيامة ، وهذا هو موت القلب ، والعياذ بالله ، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لمواتاة الدنيا ، وعلموا أن النجاة فى الحزن الدائم ، والتباعد من أسباب الفرح والبطر ، فقطعوا النفس عن ملاذها ، وعودوا الصبر عن شهواتها ، حلالها وحرامها ، وعلموا أن حلالها حساب ، وهو نوع عذاب ، ومن نوقش الحساب عذّب ، فخلّصوا أنفسهم من عذابها ، وتوصلوا إلى الحرية والملك فى الدنيا والآخرة ، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها ، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. ه.
وقال يمن بن رزق : اعلم أنى لم أجد شيئا أبلغ فى الزهد فى الدنيا من ثبات حزن الآخرة فى القلب ، وعلامة ثبات حزن الآخرة فى القلب : أنس القلب بالوحدة. ه. قلت : وهذا مذهب العباد والزهاد ، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، جعلنا الله من خواصهم ، بمنّه وكرمه.
ثم ذكر جواب قارون ، فقال :
(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))
__________________
(١) فى البيضاوي : [الترح] وهو أنسب بالسياق ،. ولعل ما فى أعلى تصحيفا عن : التوقي ، أي : الحذر والتحوط.