يقول الحق جل جلاله : (قالَ) قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي : المال (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي : على استحقاق منى ، لما فىّ من العلم الذي فضلت به الناس ، وهو علم التوراة ، وكان أعلم الناس به بعد ، موسى وهارون ، وكان من العباد ، ثم كفر بعد ذلك. وذكر القشيري أنه كان منقطعا فى صومعة للعبادة ، فصحبه إبليس على العبادة ، واستمر معه على ذلك ، وهو لا يشعر ، إلى أن ألقى إليه : إن ما هما عليه ، من الانقطاع عن التكسب ، وكون أمرهما على أيدى الناس ، ليس بشىء ، فرده إلى الكسب بتدريج ، إلى أن استحكم فيه حب الدنيا والجمع والمنع ، ثم تركه. ه. وقيل : المراد به علم الكيمياء ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. أو : العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة ، أو : العلم بكنوز يوسف (١).
قال تعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) ، أي : أو لم يكن فى علمه ، من جملة العلم الذي عنده ، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى ، وأكثر جمعا للمال ، أو أكثر جماعة وعددا ، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله ، مع علمه بذلك ؛ لأنه قرأه فى التوراة ، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو : نفى لعلمه بذلك ؛ لأنه لمّا قال : (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) ؛ قيل له : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع ، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله ، حتى يقى نفسه مصارع الهالكين.
(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ، لعلمه تعالى بعملهم ، بل يدخلهم النار بغتة. أو : يعترفون بها بغير سؤال ، أو : يعرفون بسيماهم فلا يسألون ، أو : لا يسألون سؤال توبيخ ، أو لا يسأل المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب : هو كلام متصل بما قبله ، والضمير فى (ذنوبهم) ؛ عائد على من أهلك من القرون ، أي : أهلكوا ، ولم يسأل غيرهم بعدهم عن ذنوبهم ، بل كل أحد إنما يعاتب على ما يخصه. ه. وإذا قلنا هو ؛ فى القيامة فقد ورد فى آيات أخر أنهم يسألون ، ويوم القيامة مواطن وطوائف. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا خص الله عبدا بخصوصية فلا ينسبها لنفسه ، أو لحوله وقوته ، أو لكسبه ومجاهدته ، بل يشهدها منّة من الله عليه ، وسابق عناية منه إليه ، قال سهل رضي الله عنه : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح ، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله ، وفتح له سبيل رؤية منّة الله عليه ، فى جميع الأفعال والأقوال. والشقي منّ زيّن له فى عينه أفعاله وأقواله وأحواله ، ولأفتح له سبيل رؤية منّة الله عليه ، فافتخر بها وادعاها لنفسه ، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون ، لمّا أدعى لنفسه فضلا. ه.
__________________
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣ / ٣٩٩ ـ ٤٠٠) وتفسير البغوي (٦ / ٢٢٢).