مكانه ، ومن كان معى فليعتزل ، فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ، ويناشدونه بالله وبالرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم ؛ لشدة غضبه ، ثم قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم. فقال الله تعالى : يا موسى ؛ استغاث بك مرارا فلم ترحمه ، فوعزتى لو استرحمنى مرة لرحمته (١).
روى أنه يخسف كل يوم قامة ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، فقال بعض بنى إسرائيل : إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه ، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه ، وأوحى الله تعالى إلى موسى : إنى لا أعبّد الأرض أحدا بعدك أبدا ، أي : لا آمرها تطيع أحدا بعدك.
(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) ؛ جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) ؛ يمنعونه من عذاب الله ، (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من عذاب الله ، أو : من المنتقمين من موسى.
(وَأَصْبَحَ) أي : وصار (الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) أي : منزلته من الدنيا (بِالْأَمْسِ) : متعلق بتمنوا. ولم يرد به اليوم الذي قبل يومك ، ولكن الوقت القريب ، استعارة. (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي : اعجب مما صنع بقارون ، ؛ لأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، وهو عنده ممقوت ، (وَيَقْدِرُ) أي : يضيقه على من يشاء ، وهو عنده محبوب. (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) ؛ بصرف ما كنا نتمناه بالأمس ، (لَخَسَفَ بِنا) معه ، كما فعل بالرجلين ، (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي : اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضى : كأن المخاطب كان يدعى أنهم يفلحون ، فقال له : عجبا منك ، فسئل : لم تتعجب منه؟ فقال : إنه لا يفلح الكافرون ، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز : ويكأن الله معناه : ألم تر أن الله. واقتصر عليه البخاري (٢). والله تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية ترهيب من التعمق فى زينة الدنيا ، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها ، وترغيب فى الزهد فيها ، وإيثار الفقر على الغنى ، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف ؛ سيدى عبد الرحمن بن يوسف اللجائى فى كتابه : اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت فى قلب عبد ، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا ، ويتمنى أن ينال منها ما نال ، فإن كل انسان يعظم ما اشتهت نفسه.
__________________
(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ٢٢٤) وانظر تفسير ابن كثير (٣ / ٤٠١).
قلت : وهذه الرواية تجعل سبب الخسف بقارون هو غضب سيدنا موسى لنفسه ، لكن القرآن الكريم ، والأحاديث الصحيحة تبرهن على أن سبب الخسف به هو التكبر على الله تعالى ، والتكبر على الناس.
(٢) انظر فتح الباري (كتاب التفسير ، سورة القصص ، باب. (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ٨ / ٣٦٩).