يقول الحق جل جلاله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) أي : وكم من دابة من دواب الأرض ، عاقلة وغير عاقلة ، (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ؛ لا تطيق أن تحمله ؛ لضعفها عن حمله ، (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أي : لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله ، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله ، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها ؛ لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها ؛ لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : لا تدخره ، إنما تصبح خماصا (١) ، فيرزقها الله. وقيل : لا يدخر من الحيوان قوتا إلا ابن آدم والفأرة والنملة (٢). (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم : نخشى الفقر والعيلة إن هاجرنا ، (الْعَلِيمُ) بما فى ضمائركم من خوف فوات الرزق.
ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي : المشركين وغيرهم (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على كبرهما وسعتهما ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يجريان فى فلكهما ، (لَيَقُولُنَّ اللهُ) ؛ لا يجدون جوابا إلا هذا ، لإقرارهم بوجود الصانع ، (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ؛ فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ مع إقرارهم بهذا كله ، إذ لو تعدد الإله لفسد نظام العالم.
(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) هاجر أو أقام فى بلده ، (وَيَقْدِرُ لَهُ) ؛ ويضيق عليه ، أقام أو هاجر ، فالضمير فى (لَهُ) لمن يشاء ؛ لأنه مبهم غير معين ، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ؛ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم ، فمنهم من يصلحه الفقر ، ومنهم من يفسده ، ففى الحديث القدسي : «إن من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك» (٣). ذكره النسفي.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) ؛ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها ، أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إظهار قدرته ، حتى ظهرت لجميع الخلق ، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو : على ما عصمك مما هم عليه ، أو : على تصديقك وإظهار حجتك ، أو : على إنزاله الماء لإحياء الأرض ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ؛ لا عقول لهم ، فلا يتدبرون فيما يريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) «خماصا» جياعا ، جمع خميص.
(٢) قاله سفيان فيما ذكره البغوي فى تفسيره (٦ / ٥٣).
(٣) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح ٨٠٩٨ ، ٨١٠٠) من حديث عمر ، وأنس ـ رضى الله عنهما.