يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ؛ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بطاعته وترك معصيته. (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) شيئا ، لا يقضى عنه شيئا ، ولا يدفع عنه شيئا. والأصل : لا يجزى فيه ، فحذف. (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ، وتغيير النظم فى حق الولد ، بأن أكده بالجملة الاسمية ، وبزيادة لفظ (هو) ، وبالتعبير بالمولود ؛ للدلالة على حسم أطماعهم فى أن ينفعوا آباءهم الذين ماتوا على الكفر ؛ بالشفاعة فى الآخرة. ومعنى التأكيد فى لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه ، فضلا عن أن يشفع لأجداده ؛ لأن الولد يقع على الولد وولد الولد ، بخلاف المولود ؛ لإنه لما ولد منك. كذا فى الكشاف ، قلت : وهذا فى حق الكفار ، وأما المؤمنون ؛ فينفع الولد والده ، والوالد ولده بالشفاعة ، كما ورد فى قارئ القرآن والعالم ، وكل من له جاه عند الله ، كما تقدم فى سورة مريم (١).
ثم قال تعالى : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والحساب والجزاء ، (حَقٌ) لا يمكن خلفه ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ؛ بزخارفها الغرارة ؛ فإنّ نعمها دانية ، ولذاتها فانية ، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء ، بالزهد فيها ، والتفرغ لما يرضى الله ، من توحيده وطاعته ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) ، أي : لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحمله ، أو : لا يوقعنكم فى الجهل بالله والغرة به ، (الْغَرُورُ) أي : الشيطان ، أو : الدنيا ، أو : الأمل. وفى الحديث : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأمانى» (٢). وفى الحديث أيضا : «كفى بخشية الله علما ، وبالاغترار به جهلا».
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : وقت قيامها ، فلا يعلمه غيره ، فتأهبوا لها ، قبل أن تأتيكم بغتة. (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) : عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل ، أي : إن الله يثبت عنده علم الساعة ، وينزل الغيث فى وقته ، من غير تقديم ولا تأخير ، وفى محله ، على ما سبق فى التقدير ، ويعلم كم قطرة ينزلها ، وفى أي بقعة يمطرها. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) ؛ أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وشقى أو سعيد ، وحسن أو قبيح. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، ووفاق وشقاق ، فربما كانت عازمة على الخير فعملت شرا ، أو على شر فعملت خيرا. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي : أين تموت ، فربما أقامت بأرض ، وضربت أوتادها ، وقالت : لا أبرحها ، فترمى بها مرامى القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها.
روى أن ملك الموت مرّ على سليمان عليهالسلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ، فقال الرجل : من هذا؟ فقال : ملك الموت ، فقال : كأنه يريدنى ، فسأل سليمان أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظرى إليه تعجبا منه ، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند ، وهو عندك. ه.
__________________
(١) راجع إشارة الآية ٨٧ من سورة مريم.
(٢) سبق تخريج الحديث عند إشارة الآيات : ٣٨ ـ ٤٠ من سورة العنكبوت.