وجعل العلم لله والدراية للعبد ، لما فى الدراية من معنى التكسب والحيلة ، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها. وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث والموت ؛ فإنه يقول بالقياس والنظر فى المطالع ، وما يدرك بالدليل لا يكون غيبا ، على أنه مجرد الظن ، والظن غير العلم. وعن ابن عباس : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب. وجاءه يهودى منجم ، فقال : إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام ، وأنت لا تموت حتى تعمى ، وأنا لا يحول علىّ الحول حتى أموت. قال له : أين موتك؟ قال : لا أدرى ، فقال ابن عباس : صدق الله : (ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). ورأى المنصور فى منامه ملك الموت ، وسأله عن مدة عمره ، فأشار بأصابعه الخمس ، فعبرها المعبرون بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله. ه.
وقال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى فى حاشيته : قيل : إن الله تعالى يعلم الأشياء بالوسم والرسم ، والرسم يتغير ، والوسم لا يتغير ، فقد أخفى الله تعالى الساعة ، ولم يخف أمارتها ، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه ، ولكن لا من كل وجوهه ، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره ، وبالجملة فعلم ما يكون من الخواص ، جملة لا تفصيلى ، وجزئى لا كلى ، ومقيد لا مطلق ، وعرضى لا ذاتى ، بخلاف علمه تعالى. ه.
قال المحلى : روى البخاري ؛ عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمس : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ..) (١) إلى آخر السورة .. ونقل ابن حجر عن ابن أبى جمرة ، بعد كلام ، ما نصه : والحكمة فى جعلها خمسة : الإشارة إلى حصر العوالم فيها ، ففى قوله : (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) : الإشارة إلى ما يزيد فى الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر ، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها ، فغيرها بطريق الأولى. وفى قوله : لا يعلم متى يأتى المطر : إشارة إلى أمور العالم العلوي ، وخص المطر مع أن له أسبابا قد تدل بجرى العادة على وقوعه ، لكنه من غير تحقيق. وفى قوله : «لا تدرى نفس بأى أرض تموت» : إشارة إلى أمور العالم السفلى ، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ، ولكن ليس ذلك حقيقة ، وإن مات ببلده لا يعلم بأى بقعة يدفن فيها ، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه ، بل قبر أعده هو له.
وفى قوله : «ولا يعلم ما فى غد إلا الله» : إشارة إلى أنواع الزمان ، وما فيها من الحوادث ، وعبّر بلفظ (غد) ؛ لكون حقيقته أقرب الأزمنة إليه ، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه ، مع إمكان الأمارة والعلامة ، فما بعد
__________________
(١) أخرج حديث مفاتيح الغيب ، البخاري فى (الاستسقاء ، باب لا يدرى متى يجىء المطر إلا الله ح ١٠٣٩).