جزئى من جهة تشكيله للمعنى الكلى ، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس : أن التجلي المستولى غير مرتد برداء الحس ؛ إذ لا عبودية فيه ، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء ، لأن كنزه ما زال مدفونا ، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل ، وسلّم ، إن لم تفهم ، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال ، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقة ، فتفهم أسرار التوحيد. وبالله التوفيق.
ثم كمل ما بقي من أوصافه ، فقال :
(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠))
قلت : (الذي) : صفة للعزيز ، أو : خبر عن مضمر. ومن قرأ (خَلَقَهُ) ؛ بالفتح (١) ؛ فصفة لكل ، ومن سكّنه ؛ فبدل منه ، أي : أحسن خلق كل شىء.
يقول الحق جل جلاله فى وصف ذاته : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي : أبدع خلق كل شىء ، أتقنه على وفق حكمته. أو : أتقن كل شىء من مخلوقاته ، فجعلهم فى أحسن صورة. ثم (بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) ؛ آدم (مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) ؛ ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي : نطفة مسلولة من سائر البدن ، (مِنْ ماءٍ) أي : منّى ، وهو بدل من سلالة ، (مَهِينٍ) ؛ ضعيف حقير. (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي : سوّى صورته فى أحسن تقويم ، (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) ، أضافه إلى نفسه ، تشريفا ، إشارة إلى أنه خلق عجيب ، وأن له شأنا ومناسبة إلى حضرة الربوبية ، ولذلك قيل : من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم فى سورة الإسراء ، فى الكلام على الروح ، وجه المعرفة منه (٢). (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لتسمعوا كلامه ، وتبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته ، وتعقلوا ، فتعرفوا صانعكم ومدبر أمركم. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : تشكرون شكرا قليلا على هذه النعم ؛ لقلة التدبر فيها.
__________________
(١) قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : «خلقه» ؛ بفتح اللام ، فعلا ماضيا ، وقرأ الباقون : بسكونها ؛ بدل من «كل» ؛ بدل اشتمال. انظر : الإتحاف (٢ / ٣٦٦).
(٢) راجع إشارة الآية ٨٥ من سورة الإسراء. (٣ / ٢٢٨ ـ ٢٣٠).