قال الأقليشى : جاء فى حديث : «إن بعد ما بين السماء والأرض ، وما بين سماء إلى سماء ، مسيرة خمسمائة سنة». وفى حديث آخر : «إن بين ذلك نيّفا وسبعين سنة» ، وإنما وقع الاختلاف فى ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة. وان سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل : من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل. وعليه يخرج قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ). وقال فى آية أخرى : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (١). وهكذا الوجود من علوه إلى سفله ، من الملائكة من يقطعه فى مدة ما ، ويقطعه غيره فى أكثر منها أو أقل. ه. وقيل : المعنى : أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ، فيحكم فيه فى يوم كان مقداره ألف سنة ، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل : إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفا ، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية ، فقال : يدبر الأمر فى مدة الدنيا ، ثم يعرج إليه يوم القيامة. ويوم القيامة : مقداره ألف سنة ؛ من عدّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة ؛ لهوله ، حسبما فى سورة المعارج. ه.
قلت : والتحقيق ، فى الفرق بين الآيتين ، أن الحق تعالى ، حيث لم يختص بمكان دون مكان ، وكانت الأمكنة فى حقه تعالى كلها واحدة ، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته ، كان العروج إنما هو إليه على كل حال ، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علق العروج بتدبير الأمور وتنفيذها ، قرّب المسافة ؛ ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة. ولمّا علّق عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بعّد المسافة ؛ زيادة فى علو شأنه ورفعة قدره. وكل هذا العروج فى دار الدنيا. على قول من علّق (فى يوم) بتعرج فى سورة المعارج. فتأمله.
(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت ، وما شوهد فى عالم الحس من عجائب عالم الملك. (الْعَزِيزُ) ؛ الغالب أمره وتدبيره ، (الرَّحِيمُ) ؛ البالغ لطفه وتيسيره.
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات ، قطعة من نور ذاته ، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش ، ثم بالماء ، فكان عرشه على الماء ، ثم بالكرسي ، ثم بالأرض ، ثم بالسماوات ، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمدانى رحمانى من بحر جبروته ، استوى به على عرشه ؛ لتدبير ملكه ، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «إن الله خلق آدم على صورته». وفى رواية : «على صورة الرحمن». وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده ، ولرؤيته ـ باعتبار العامة ـ ، وهذا التجلي كله ، من جهة معناه ، متصل بسائر التجليات ،
__________________
(١) الآية ٤ من سورة المعارج.