الجمع ، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهولاء على صلاتهم دائمون ، وفى حال نومهم عابدون ، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون ، وفى معاريج بحر عرفانهم سائحون ، فلا تعلم نفس ما أخفى لهؤلاء من دوام النظرة ، والعكوف فى الحضرة ، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية ، سرية ؛ خفية عن الكرام الكاتبين ، بين فكرة وشهود وعبرة واستبصار ، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، وقد ورد : (تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة). هذا تفكر الاعتبار ، وأما تفكر الشهود والاستبصار ، فكل ساعة ، أفضل من ألف سنة ، كما قال الشاعر :
كلّ وقت من حبيبى |
|
قدره كألف حجّه |
أي : سنة ، ومع هذا لا يخلون أوقاتهم من العبادة الحسية ، شكرا ، وقياما بآداب العبودية ، وهى فى حقهم كمال ، كما قال الجنيد : عبادة العارفين تاج على الرؤوس. ه. وفى مثل هولاء ورد الخبر : «إن أهل الجنة بينما هم فى نعيمهم ، إذ سطع عليهم نور من فوق ، أضاءت منه منازلهم ، كما تضىء الشمس لأهل الدنيا ، فنظروا إلى رجال من فوقهم ، أهل عليين يرونهم كما يرى الكوكب الدري فى أفق السماء ، وقد فضّلوا عليهم فى الأنوار والنعم ، كما فضل القمر على سائر النجم ، فينظرون إليهم ، يطيرون على نجب ، تسرح بهم فى الهواء ، يزورون ذا الجلال الإكرام ، فينادون هؤلاء : يا إخواننا ، ما أنصفتمونا ، كنا نصلى كما تصلون ، ونصوم كما تصومون ، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء من قبل الله تعالى : كانوا يجوعون حين تشبعون ، ويعطشون حين تروون ، ويعرون حين تكسون ، ويذكرون حين تسكتون ، ويبكون حين تضحكون ، ويقومون حين تنامون ، ويخافون حين تأمنون ، فلذلك فضّلوا عليكم اليوم. فذلك قوله تعالى : «فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون». ه.
قال القشيري : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، فى الظاهر ، عن الفراش ، قياما بحقّ العبادة والجهد والتهجد ، وفى الباطن : بتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال ، ورؤية قدر النفس ، وتوهم المقام ؛ لأن ذلك بجملته ، حجاب عن الحقيقة ، وهو للعبد سمّ قاتل ، فلا يساكنون أعمالهم ، ولا يلاحظون أحوالهم ، ويفارقون مآلفهم ، ويهجرون معارفهم. والليل زمان الأحباب ، قال الله تعالى : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) (١) يعنى : عن كلّ شغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم ، والنهار زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (٢) .. انظر بقية كلامه.
__________________
(١) من الآية (٧٣) من سورة القصص.
(٢) من الآية (١١) من سورة النبأ.