العذاب ، وإنما امتنع وصفها ؛ لتقدم ذكرها ، فإنك إذا ذكرت شيئا ثم كررت ذكره لم يجز وصفه ، كقولك : رأيت رجلا فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. ه.
الإشارة : أفمن كان مصدقا بطريق الخصوص ، داخلا فيها ، شاربا من خمرتها ، كمن كان فاسقا خارجا عنها ، مشتغلا بنفسه ، غريقا فى هواه ، لا يستوون أبدا. أما الذين آمنوا بها ، وصدقوا أهلها ، ودخلوا فى تربيتهم ، فلهم جنات المعارف ، هى مأواهم ومعشش قلوبهم ، إليها يأوون ، وفيها يسكنون ، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم ، فمأواهم نار القطيعة ، وعذاب الحرص ، وغم الحجاب ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ؛ إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم : ذوقوا وبال الإنكار ، وحرمان الخصوصية ، التي كنتم بها تكذبون.
قال القشيري : هذا ما يلقون يوم القيامة ، ثم ذكر ما يعجل لهم فى الدنيا ، فقال :
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي : عذاب الدنيا ؛ من القتل ، والأسر فى بدر ، أو ما محنوا به من السّنة ، سبع سنين. (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي : قبل عذاب الآخرة ، الذي هو أكبر ، وهو الخلود فى النار. وعن الداراني : العذاب الأدنى : الخذلان ، والعذاب الأكبر : الخلود فى النيران. وقيل : الأدنى : عذاب القبر ، والأكبر : النار. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ؛ يتوبون عن الكفر.
(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي : لا أحد أظلم (مِمَّنْ ذُكِّرَ) أي : وعظ (بِآياتِ رَبِّهِ) ؛ القرآن ، (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي : تولى عنها ، ولم يتدبر فى معناها. و «ثم» ؛ للاستبعاد ؛ فإن الإعراض عن مثل هذه فى ظهورها ، وإنارتها ، وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى ، بعد التذكر بها ، مستبعد فى العقل ، كما تقول لصاحبك : وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهزها ـ ؛ استبعادا لتركه الانتهاز. (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ، ولم يقل : «منه» ، تسجيلا عليه بإعراضه بالإجرام ، ولأنه إذا جعله أظلم من كل ظالم ، ثم توعد المجرمين ، عامة ، بالانتقام ، دلّ على إصابة الأظلم أوفر نصيب من الانتقام ، ولو قال بالضمير ؛ لم يفد هذه الفائدة.
الإشارة : ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب ، من العذاب الأدنى ، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع ، قبل العذاب الأكبر ، وهو غم الحجاب وسوء الحساب. قال القشيري : قوم : الأدنى لهم : محن الدنيا ، والأكبر : عقوبة العقبى.