تنزل الشمس فى بروجها ، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضى النزول إلى مقامه. فتارة يبرز ما يقتضى التوبة ، وتارة ما يقتضى الخوف والهيبة ، أي : خوف القطيعة ، وتارة ما يقتضى الرجاء والبسط ، وتارة ما يقتضى الشكر ، وتارة الصبر ، وتارة ما يقتضى الرضا والتسليم ، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة. وهكذا ينزل فى المقامات ويرحل عنها ، ولا يقيم فى شىء منها. ويستأذن بعض المريدين فى الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام ، أو شىء من أمور البدايات ، يقولون : إن بيوت تلك المقامات لم نتقنها ، بل فيها عورة وخلل ، وما هى بعورة ، ما يريدون إلا فرارا من ثقل أعباء الحضرة. ولو دخلت بيوت قلوبهم من أقطارها ، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها ؛ لأنها قريبة عهد بتركها ، وما تلبثوا بها إلا زمانا يسيرا ، بل يبغتهم الموت ، ويندمون ، قل متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى.
وقد كانوا عاهدوا الله ألّا يرجعوا إليها ، كما قال تعالى :
(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي : قبل غزوة الخندق ، وهو يوم أحد. والضمير فى «كانوا» : لبنى حارثة ، عاهدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، حين فشلوا ، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله ، وقالوا : (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) ؛ منهزمين أبدا ، (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به ، مجازى عليه ، أو : مطلوبا مقتضى حتى يوفى به. (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) ، فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنفه ، أو : قتل فى وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم ، (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إن حضر أجلكم له ينفعكم الفرار ، وإن لم يحضر ، وفررتم ، لن تمتعوا فى الدنيا إلا زمانا قليلا ، وهو مدة أعماركم ، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.
(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي : يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم ؛ (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) فى أنفسكم ؛ من قتل أو غيره ، (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي : أراد بكم إطالة عمر فى عافية وسلامة. أو : من يمنع الله