من أن يرحمكم ، إن أراد بكم رحمة ، فحذف ؛ بعدا واختصارا ، لما فى العصمة من معنى المنع ، أو : من ذا الذي يعصمكم ؛ إن أراد بكم سوءا ، أو يصيبكم بسوء ، إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) ينفعهم ، (وَلا نَصِيراً) يدفع العذاب عنهم.
الإشارة : ولقد كان عاهد الله ؛ من دخل فى طريق القوم ، ألّا يولى الأدبار ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتر عن السير ، وكان عهد الله مسئولا ، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرادة ، ولما ذا حرم نفسه من لذيذ المشاهدة؟ قل ـ لمن رجع ، ولم يقدر على مجاهدة نفسه : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم ، أو القتل ؛ بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها ، وتحميلها ما يثقل عليها ، وإذا لا تمتعون إلا قليلا ، ثم ترحلون إلى الله ، فى غم الحجاب وسوء الحساب. قل : من ذا الذي يعصمكم من الله ، إن أراد بكم سوءا؟ ، وهو البعد والطرد ، أو : من يمنعكم من رحمته ، إن أراد بكم رحمة؟ ، وهى التقريب إلى حضرته ، فلا أحد يعصمكم من إبعاده ، ولا أحد يمنعكم من إحسانه ؛ إذ لا ولىّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين ، وارحمنا برحمتك الخاصة ، حتى تقرّبنا إلى حضرتك ، بفضل منك وجودك ، يا أرحم الراحمين.
ثم ذكر نعوت أهل البعد ، فقال :
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))
يقول الحق جل جلاله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي : يعلم من يعوّق عن نصرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويمنع ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو ، (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) فى الظاهر ؛ من ساكنى المدينة من المسلمين : (هَلُمَّ إِلَيْنا) ؛ تعالوا إلينا ، ودعوا محمدا. ولغة أهل الحجاز فى «هلم» : أنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون : هلم يا رجل ، وهلموا يا رجال .. وهكذا. (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) ؛ الحرب