عدولا ، وإن خانها ولم يقم بها ، كان ظلوما جهولا ، كلّ على قدر خيانته وظلمه ، فالكفار خانوا أصل الأمانة ، وهى الإيمان فكفروا ، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة ، فبعضهم أشد ، وبعضهم أهون ، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.
ثم علل عرضها ، وهو : لتقوم الحجة على عباده ، فقال : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) ؛ حيث لم يقوموا بها ، وخانوا فيها ، فتقوم الحجة عليهم ، ولا يظلم ربك أحدا. وقال أبو حيان : اللام للصيرورة والعاقبة. وقال أبو البقاء : اللام متعلق بحملها ، وحينئذ تكون للعاقبة قطعا. (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، حيث حملوا الأمانة ، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط ، قال تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (١) وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) ولذلك قال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، فالغفران لمن لحقه تفريط وتقصير ، والرحمة لمن اجتهد قدر طاقته ، كالأولياء وكبار الصالحين.
والحاصل : أن العذاب لمن تحملها أولا ، ولم يقم بحقها ثانيا. والغفران لمن تحملها وقام بحقها ، والرحمة لمن تحملها ورعاها حق رعايتها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال هى شهود أسرار الربوبية فى الباطن ، والقيام بآداب العبودية فى الظاهر ، أو تقول : هى إشراق أسرار الحقائق فى الباطن ، والقيام بالشرائع فى الظاهر ، مع الاعتدال ، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع ، ولا الشرائع على الحقائق ، فلا يغلب السكر على الصحو ، ولا الصحو على السكر. وهذا السر خاص بالآدمى ؛ لأنه اجتمع فيه الضدان ؛ اللطافة والكثافة ، النور والظلمة ، المعنى والحس ، القدرة والحكمة ، فهو سماوى أرضى ، روحانى بشرى ، معنوى وحسى. ولذلك خصه الله تعالى من بين سائر الأكوان بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٣) أي : بيد القدرة والحكمة ، فكان جامعا للضدين ، ملكيا ملكوتيا ، حسه حكمة ، ومعناه قدرة. وليست هذه المزية لغيره من الكائنات ، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم ، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهيمان ، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم ، فلا يظهر عليهم شىء من الأنوار والأسرار.
__________________
(١) الآية ٢٣ من سورة عبس.
(٢) الآية ٦٧ من سورة الزمر.
(٣) من الآية ٧٥ من سورة (ص).