قلت : (إذا) : العامل فيه محذوف ، دلّ عيه : (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). و (ممزّق) : مصدر ، أي : تجددون إذا مزقتم كل تمزيق ، و (جديد) : فعيل بمعنى فاعل ، عند البصريين. تقول : جدّ الثوب فهو جديد ، أو بمعنى مفعول ، كقتيل ، من جد النساج الثوب : قطعه. ولا يجوز فتح (إنكم) للأم فى خبره. و (أفترى) : الهمزة للاستفهام ، وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها.
يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من منكرى البعث : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) ، يعنون محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وإنما نكّروه ـ مع أنه كان مشهورا علما فى قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم ـ تجاهلا به وبأمره. وباب التجاهل فى البلاغة معلوم ، دال على سحرها ، (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب ، إنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا ، بعد أن تكونوا رفاتا وترابا ، وتمزق أجسادكم بالبلى ، كل تمزيق ، وتفرقون كل تفريق ، (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) : جنون توهمه ذلك ، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة ، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه ، وأجيب : بأن الافتراء أخص من الكذب ، لاختصاص الافتراء بالتعمد ، والكذب أعم. وكأنه قيل : أتعمد الكذب أو لم يتعمد بل به جنون.
قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي : ليس محمد من الافتراء والجنون فى شىء ، وهو منزه عنهما ، بل هؤلاء الكفرة ، المنكرون للبعث ، واقعون فى عذاب النار ، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق ، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه ، وهم لا يشعرون بذلك ، وذلك أحق بالجنون. جعل وقوعهم فى العذاب رسيلا لوقوعهم فى الضلال ، مبالغة فى استحقاقهم له ، كأنهما كائنان فى وقت واحد ؛ لأن الضلال ، لمّا كان العذاب من لوازمه ، جعلا كأنهما مقترنان. ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازى ؛ لأنّ البعيد فى صفة الضالّ إذا بعد عن الجادة.
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما أينما كانوا ، وحيثما ساروا ، وجدوهما أمامهم وخلفهم ، محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ، وأن يخرجوا عما هم فيه ، من ملكوت الله ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم فى الأرض ، أو يسقط عليهم (كِسَفاً) ؛ قطعة ، أو قطعا من السماء بتكذيبهم الآيات ، وكفرهم بما جاء به الرسول ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
وقرأ حمزة والكسائي «يخسف» ، و «يسقط» بالياء (١) ؛ لعود الضمير على (الله) فى قوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ) ، وقرأ حفص : «كسفا» بالتحريك ، جمعا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) ؛ إن فى النظر إلى السماء والأرض والتفكر فيهما ،
__________________
(١) وكذا قوله : (يشأ). وقرأ الباقون بنون العظمة فى الثلاثة. انظر الإتحاف (٢ / ٣٨٢).