وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالة ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق ، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ؛ راجع بقلبه إلى ربه ، مطيع له تعالى ، إذ المنيب لا يخلو من النظر فى آيات الله ، فيعتبر ، ويعلم أن من قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام ، قادر على إحياء الأموات وبعثها ، وحسابها وعقابها.
الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال ؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله ، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن ، فيقع الإنكار عليهم ، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم فى الظاهر كل ممزق ، يجدد الايمان والإحسان فى بواطنكم ، أفترى على الله كذبا أم به جنة؟ بل الذي لا يؤمنون بالنشأة الآخرة ـ وهى حياة الروح بمعرفة الله ـ فى عذاب الحجاب والضلال ، عن معرفة العيان بعيد ، ما داموا على ذلك الاعتقاد ، ثم يهددون بما يهدد به منكر والبعث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان ، احتجاجا على ما منح محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الرسالة والوحى ، ردا لقولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره ، فقال :
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))
قلت : (يا جبال) : بدل من (فضلا) ، أو يقدر : وقلنا. و (الطير) : عطف على محل الجبال ، ومن رفعه فعلى لفظه.
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي : مزية خصّ بها على سائر الأنبياء ، وهو ما جمع له من النبوة ، والملك ، والصوت الحسن ، وإلانة الحديد ، وتعلم صنعة الزرد ، وغير ذلك مما خص به ، أو : فضلا على سائر الناس بما ذكر ، وقلنا : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) ؛ رجّعى معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه : أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحا ، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود عليهالسلام ، فكان إذا تخلل الجبال وسبح ؛ جاوبته الجبال بالتسبيح ، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب ، أي : الترجيع ، وقيل : من الإياب بمعنى الرجوع ، أي : ارجعي معه بالتسبيح. (وَالطَّيْرَ) أي : أوبى معه ، أو : وسخرنا له الطير تؤب معه. قال وهب : فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه ، من أجل زلته ، أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم (١).
__________________
(١) انظر تفسير البغوي (٦ / ٣٨٨).