وقال بعضهم : الدنيا كلها بحر لّجّى ، والناس مغروقون فيه ، إلا من عصم الله ، وساحله الموت ، فمن لعبت به أمواج الهوى والحظوظ ، فليأوى إلى سفينة الزهد والورع ، وليتمسك برئيس عارف بأهوال البحر ، وهم العارفون بالله ، فإنه ينجو من أهوالها ، ومن أخطأ هذا غرق فى تيارها ، ولعبت به أمواج حظوظها وشهواتها ، فكان من الهالكين ، نسأل الله الحفظ بمنّه وكرمه.
ثم ذكر علامات وجود ذلك النور المتقدم فى أهل السموات والأرض ، فقال :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))
يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد ، وخصّه بالخطاب ؛ إيذانا بأنه صلىاللهعليهوسلم قد أفاض عليه أعلى مراتب النور وأجلاها ، وبيّن له من أسرار الملكوت أجلّها وأخفاها ، أي : ألم تنظر بعين بصيرتك ، فتعلم علم يقين ، (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ) أي : ينزهه على الدّوام (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ من العقلاء وغيرهم ، تنزيها معنويا ، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود ، متصف بصفات الكمال ، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه. أو : تنزيها حسيا بلسان المقال ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وتخصيص التنزيه بالذكر ، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا ؛ لأن مساق الكلام تقبيح حال الكفرة فى إخلالهم بالتنزيه ؛ بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد.
(وَ) يسبحه (الطَّيْرُ) حال كونها (صَافَّاتٍ) أي : يصففن أجنحتهن فى الهواء ، وتخصيصها بالذكر ، مع اندراجها فى جملة ما فى الأرض ؛ لعدم استمرار قرارها فيها ، ولاختصاصها بصنع بارع ، وهو اصطفاف أجنحتها فى الجو ، وتمكينها من الحركة كيف تشاء ، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط ، ففى ذلك دلالة واضحة على كمال قدرة الصانع المجيد ، وغاية حكمة المبدئ المعيد.
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي : كل واحد من الأشياء المذكورة قد علم الله تعالى صلاته ، أي : دعاءه وخضوعه وتسبيحه. أو : كلّ قد علم فى نفسه ما يصدر عنه من صلاة وتسبيح ، فالضمير : ما إليه أو لكل. ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة ، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) ؛ لا يعزب عن علمه شىء.