ثم بيّن أنه لا يطلب أجرا على الإنذار ؛ إزاحة للتهمة عنه ، فقال :
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧))
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ) عليه أي : على إنذارى وتبليغ الرسالة (مِنْ أَجْرٍ) ، إذ لو كنت كذلك لا تهمتمونى أنى أطمع فى أموالكم. وما طلبت من ذلك (فَهُوَ لَكُمْ) ، ومعناه : نفى سؤاله الأجر رأسا. نحو : ما لى فى هذا فهو لك ، وما تعطنى تصدق به على نفسك. (إِنْ أَجْرِيَ) فى ذلك (إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فيعلم أنى لا أطلب الأجر فى نصيحتكم ، ودعائكم إليه ، إلا منه تعالى.
الإشارة : تقدم مرارا أن الدعاة إلى الله ينبغى لهم أن يتنزّهوا عن الطمع فى الناس جهدهم ، ولو اضطروا إلى ذلك ؛ إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام ، والتعفف التام عما فى أيدى الناس ، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حجة ، يدمغ بهم على الباطل ، كما قال تعالى :
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي : بالوحى ، فيرمى به على الباطل ، من الكفر وشبهه ، فيدمغه ، أو : يرمى به إلى أقطار الآفاق ، فيكون وعدا بإظهار الإسلام ، أو : يلقيه وينزله إلى أنبيائه. والقذف : رمى السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعار لمطلق الإلقاء ، ومنه : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (١). تم وصف الرب بقوله : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي : هو علام الغيوب.
(قُلْ جاءَ الْحَقُ) أي : الإسلام ، أو : القرآن ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي : زال الباطل وهلك ، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي ، فعدمهما عين الهلاك ، والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) (٢) قال الكواشي : المعنى : ذهب الباطل لمجىء الحق ، فلم يبق له بقية حتى يبدئ شيئا أو يعيده. ثم
__________________
(١) من الآية ٢٦ من سورة الأحزاب.
(٢) الآية ٨١ من سورة الإسراء.