والتقليد ، متفرقين اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ؛ فإنّ الازدحام يشوّش الخاطر ، ويخلط القول ، ويمنع من الرّوية ، ويقلّ فيه الإنصاف ، ويكثر الاعتساف.
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) فى أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ، وما جاء به ، حتى تعلموا أنه حق ، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف ، حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق ، وكذلك المفرد ، يتفكر فى نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالانصاف عرفتم أن (ما بِصاحِبِكُمْ) يعنى محمدا صلىاللهعليهوسلم (مِنْ جِنَّةٍ) ؛ من جنون ، وهذا كقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) (١). ومنهم من يقف على «تتفكروا» ثم يستأنف النفي. قال القشيري : يقول : إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسل ، فأمعنوا النظر ، هل ترون فيهم آثار ما رميتموهم به ـ هذا محمد صلىاللهعليهوسلم قلتم ساحر ، فأين آثار السحر فى أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم : فأىّ قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم مجنون ، فأىّ جنون ظهر منه؟ وإذا عجزتم فهلا اعترفتم به أنه صادق؟!. ه.
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي : قدّام عذاب شديد ، وهو عذاب الآخرة ، وهو كقوله صلىاللهعليهوسلم : «بعثت بين يدى الساعة» (٢).
الإشارة : فكرة الاعتبار تشد عروة الإيمان ، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان ، فأول ما يتفكر فيه الإنسان فى أمره صلىاللهعليهوسلم ، وما جاء به من العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية ، والشرائع المتباينة ، مع كونه أميا ، لم يقرأ ، ولم يطالع كتابا قط ، وما أخبر به من أمر الغيب ، فوقع كما أخبر ، وما ظهر على يديه من المعجزات ، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام ؛ من الأخلاق الحسنة ، والشيم الزكية ، وما كان عليه من سياسة الخلق ، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر ربانى ، وتأييد إلهى. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة ، ترقى بها إلى أنوار الربوبية ، فيتفكر فى عجائب السموات والأرض ، فيعرف عظمة صانعها ، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان ، فيغيب عن نظرة الأكوان ، ويبقى المكوّن وحده. كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان.
__________________
(١) من الآية ١٨٤ من سورة الأعراف.
(٢) بعض حديث ، أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٥٠) وابن أبى شيبة فى مصنفه ، من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه (٥ / ٣١٣) ، وانظر : مجمع الزوائد (٥ / ٢٦٧) ، وجاء معنى الجملة عند البخاري ومسلم بلفظ : «بعثت أنا والساعة كهاتين» أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب : قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ح ٦٥٠٤) ومسلم فى (الفتن ، باب قرب الساعة ، ٤ / ٢٢٦٨ ، ح ٢٩٥١) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.