ثم ذكر حسرة من فاته الإيمان فى إبّانه ، فقال :
(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))
قلت : «مريب» : اسم فاعل ، من : أراب ، أي : أتى بريبة ، وأربته : أوقعته فى الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد : وصفه بالشدة والإظلام ، بحيث إنه يوقع فى شك آخر.
يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ تَرى) يا محمد ، أو : يا من تصح منه الرؤية ، الكفرة. (إِذْ فَزِعُوا) ؛ حين فزعوا عند صيحة البعث ، لرأيت أمرا فظيعا هائلا ، (فَلا فَوْتَ) أي : لا مهرب لهم ، أو : فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. (وَأُخِذُوا) إلى النار (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ؛ من المحشر إلى قعر جهنم. أو : ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه ، وأخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو : إذ فزعوا يوم بدر ، وأخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
(وَقالُوا) حين عاينوا العذاب : (آمَنَّا بِهِ) أي : بمحمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لمرور ذكره فى قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (١) أو : بالله ، أو : بالقرآن المذكور فى قوله : (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أي : التناول. من قرأه بالواو (٢) فوجهه : أنه مصدر : ناش ، ينوش ، نوشا ، أي : تناول ، وهى لغة حجازية ، ومنه : تناوش القوم فى الحرب : إذا تدانوا ، وتناول بعضهم بعضا ، أي : ومن أين لهم تناول التوبة وقد بعدت عنهم ، يعنى أن التوبة كانت منهم قريبة ، تقبل منهم فى الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا وبعدت عن الآخرة. وقيل : هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم فى ذلك الوقت ، كما نفع المؤمنين إيمانهم فى الدنيا ، فمثّلت حالهم بحال من يريد أن يتناول
__________________
(١) الآية ٤٦ من السورة.
(٢) قرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والكسائي (التناوش) بالهمزة ، وقرأ الباقون (التناوش) بالواو من غير همز.