الشيء من غلوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه من قرأه بالهمز : أنه مصدر : تناءش ، بمعنى أبطأ ، أو : بعد ، يقال : تناءشت الشيء : أخذته من بعد. والنئيش : الشيء البطيء ، كما قال الشاعر :
وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخير (١).
أي : جئت بطيئا. وقيل : الهمز بدل الواو ، كالصائم ، والقائم ، وأقتت. والمعنى : ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) حصول العذاب ، أو : قبل الموت فى الدنيا ، (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، هو عطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية ، أي : وقد كفروا فى الدنيا ، ورموا بظنونهم فى الأمور المغيبة ، فقالوا : لا بعث ولا حساب ، ولا جنة ولا نار. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) عن الحق والصواب ، أو : هو قولهم فى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، شاعر ، ساحر ، كذاب ، وهو رجم بالغيب ؛ إذ لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلىاللهعليهوسلم ؛ إذ لم يعرفوه إلا بالصدق ، والأمانة ، ورجاحة العقل.
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ ، والنجاة به من النيران ، والفوز بنعيم الجنان ، أو بين الرد إلى الدنيا ، كما حكى عنهم بقوله : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (٢) (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي : بأشباههم من الكفرة الدارجة من قبلهم ، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت ، وهذه الأفعال كلها تقع فى المستقبل ، عبّر عنها بالماضي لتحقق وقوعها. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ) فى أمر الرسول والبعث ، (مُرِيبٍ) : موقع للريبة ، أو : ذى ريبة ، نعت به للمبالغة. وفيه رد على من زعم أن الله لا يعذّب على الشك ، قاله النسفي.
الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان ، وتربيته ، بصحبه أهل الإيقان ، حتى إذا كشف ـ بعد الموت ـ عن مقامهم القصير ، ومكانهم البعيد ، قالوا : آمنا وتيقنا ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير ، وصرفوا فى الشهوات والحظوظ عمرهم القصير ، وتوغلوا فى أشغال الدنيا وزخارفها ، فذهلوا عن الجد والتشمير ، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون ، من اغتنام الأوقات ، وتعمير الساعات ، لنيل المراتب والدرجات ، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع ، ويطلب الرجوع فلا يسمع.
__________________
(١) عجز بيت ، وهو كما فى القرطبي (٦ / ٥٥٥٣) :
قعدت زمانا عن طلابك للعلا |
|
وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر |
(٢) من الآية ١٢ من سورة السجدة.