ثم قال فى قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ...) الآية : وفى هذا إشارة للحكماء ، وأرباب القلوب ، مع العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة ، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، وأهل الحقائق منهم أبدا فى مقاساة الأذية ، إلا بستر حالهم عنهم ، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء المتعمقين ، والعلماء المتجمدين ، الذين هم لهذه الأصول منكرون. ه.
ثم حذّر من الدنيا ؛ لأنها تنسى النّعم والشكر ، فقال :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌ) ، أي : كائن لا محالة ، فاستعدوا للقائه ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ؛ لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة ، ولا يذهلنكم التمتع بها ، والتلذذ بملاذها ، والاشتغال بجمعها واحتكارها ، عن التأهب للقاء الله ، وطلب ما عنده. وفى الحديث : «فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية ، عن مراتب جنات عليه ، فكأن قد كشف القناع ، وارتفع الارتياب ، ولاقى كل امرئ مستقره ، وعرف مثواه ومنقلبه». (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي : الشيطان ، فإنه يمنّيكم الأمانى الكاذبة ، ويقول : إن الله غنى عن عبادتك وعن تكذيبك. أو : إن الله غفور لمن عصاه.
(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) ؛ ظاهر العداوة ، فعل بأبيكم ما فعل ، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح ، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ؛ فلا تقبلوا غروره فى عقائدكم وأفعالكم ، وكونوا على حذر منه فى جميع أحوالكم ؛ إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته فى سركم وجهركم.
قال الورتجبي : إنه عدو ؛ لأنه من عالم القهر خلق ، ونحن من عالم اللطف خلقنا. والطبعان متخالفان أبدا ، لأن القهر واللطف تسابقا فى الأزل ، فسبق اللطف القهر ، فعداوته من جهة الطبع الأول ، والجهل بالعصمة ، وأنوار التأييد والنصرة ، ومن لا يعرفه بما وصفنا ، كيف يتخذه عدوا؟ وهو لا يعرف مكائده ، ولا يعرف مكائده إلا ولىّ أو صدّيق. ه.