كذّبت رسل عظام ، ذوو عدد كثير ، وأولو آيات عديدة ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام : وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك ؛ لأن الجزاء يعقب الشرط ، ولو أجرى على الظاهر ، لكان الجزاء مقدما على الشرط ؛ لأن تكذيب الرسل سابق ، فوضع (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) موضع فتأسّ ، استغناء بالسبب عن المسبب. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ، وهو كلام مشتمل على الوعد والوعيد ، من رجوع الأمور إلى حكمه ، ومجازاة المكذّب والمكذّب بكل ما يستحقه فى الدنيا والآخرة ، فى الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق ، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب ، وفى الآخرة معلوم ، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ذكر النعمة هو أن ينظر العبد ، ويتفكر فى نفسه ، فيجد نفسه مغروقة فى النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدم تعدادها فى لقمان (١). وليتفكر فى حالته الماضية ، فقد كان جاهلا ، فعلّمه الله ، ضالا ، فهداه الله ، غافلا ، فأيقظه الله ، عاصيا ، فوفقه الله ، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضا إلى من تحته من العباد ، فيجد كثيرا من هو أسوأ منه حالا ومقاما ، فيحمد الله ويشكره. قال صلىاللهعليهوسلم : «انظروا إلى من هو تحتكم ولا تنظروا إلى من فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» (٢). وحمله المحققون على العموم فى الدين والدنيا. ذكره ابن عباد فى الرسائل وغيره.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تذاكروا النعم ؛ فإن ذكرها شكر. ه. وقال القشيري : من ذكر نعمته فصاحب عبادة ، ونائل زيادة ، ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة ، ونائل زيادة ، ولكن فرق بين زيادة وزيادة ، هذا زيادته فى الدارين عطاؤه ، وهذا زيادته لقاؤه ، اليوم سرّا بسرّ ، من حيث المشاهدة ، وغدا جهرا بجهر ، من حيث المعاينة. ه. قلت : من تحقق بغاية الشهود لم يبق له فرق بين شهود الدارين ؛ إذا المتجلى واحد. ثم قال : والنعمة على قسمين : ما دفع من المحن ، وما وضع من المنن ، فذكره لما دفع عنه يوجب دوام العصمة ، وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ..)؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته ، فإذا عرف أنه لا رازق غيره ؛ لم يعلّق قلبه بأحد فى طلب شىء. وتوهم شىء من أمثاله وأشكاله ، ويستريح لشهود تقديره ، ولا محالة يخلص فى توكله وتفويضه. ه.
__________________
(١) راجع تفسير الآية ٢٠ من سورة لقمان.
(٢) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق ٤ / ٢٢٧٥ ، ح ٢٩٦٣) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.