فقد فتح الله له الباب فى وصوله إليه ، وكل من نكبه عنهم ، ولم يصحبهم ، كما ذكر ، فقد سد الباب فى وجهه عن معرفته العيانية. وفى الحكم : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» (١). وما يمسك من ذلك فلا مرسل له من بعده ، ولو صلى وصام ألف عام. قال القشيري : ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره ، ولا ضباب يقهره. ويقال : ما يلزم قلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا ممسك له ، والذي يمنع من أعدائه ـ بسبب ما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها ـ فلا ميسّر له من دونه. ه. وبالله التوفيق.
ثم ذكّرهم بالنعم ؛ لأن تذكر النعم سبب الفتح ، فقال :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))
قلت : «غير الله» : من رفعه فنعت للمحل ، أي : هل خالق غير الله ، ومن جره : فنعت للفظ. و «يرزقكم» : إما استئناف ، أو : صفة ثانية لخالق ، و «لا إله إلا هو» : مستأنفة ، لا محل لها.
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) باللسان والقلب ، وهى التي تقدمت ، من بسط الأرض كالمهاد ، ورفع السماء بلا عماد ، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد ، والزيادة فى الخلق ، وفتح أبواب الرزق. ثم نبّه على أصل النعم ، وهو توحيد المنعّم ، فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات ، بل لا خالق يرزق غيره ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). فمن أىّ وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك.
ثم سلّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المنعم بقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ، فلك فيهم أسوة ، فاصبر كما صبروا. وتنكير «رسل» للتعظيم ، المقتضى لزيادة التسلية ، والحث على المصابرة ، أي : فقد
__________________
(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص / ١٣ ، حكمة / ١٥٦).