(لَعِبْرَةً) ؛ لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ، القائم بالأشياء ، والمدبر لها بقدرته وحكمته ، (لِأُولِي الْأَبْصارِ) ؛ لذوى العقول الصافية. وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى فى الكائنات ، حيث ذكر تسبيح من فى السموات والأرض وما يطير بينهما وخضوعهم له ، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار ، وتقليب الليل والنهار ، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة : ألم تر أن الله يزجى سحاب الواردات الإلهية ، تحمل العلوم اللدنية ، ثم يؤلف بينه حتى يكون قويا ، يقتطع به صاحبه عن حسه ، ويغيبه عن أمسه ورسمه ، فترى أمطار العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، والفتوحات العرفانية ، تخرج من خلاله ، أي : من قلب العارف ، وهى نتائج الواردات وثمراتها. وفى الحكم : «لا تزكين واردا لم تعلم ثمرته ، فليس المراد من السحابة الأمطار ، وإنما المراد منها وجود الأثمار».
وينزل من سماء الأرواح من جبال عقول ، فيها علم الرسوم الظاهرة ، فيصيب به من يشاء ، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها ، ويصرفه عمن يشاء ، ممن أريد أن يكون من عامة الناس ، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق ، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية ، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه ، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، فإنها تكون أولا كالبرق ، تلمع وتخفى ، ثم يتصل ورودها وشروقها ، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق ، نهار بلا ليل ، واتصال بلا انفصال ، ووصال بلا انقطاع. وفى ذلك يقول القائل :
طلعت شمس من أحبّ بليل |
|
واستنارت ، فما تلاها غروب |
إنّ شمس النهار تغرب بالليل |
|
وشمس القلوب ليس لها مغيب |
يقلب الله ليل القبض على نهر البسط ، ونهار البسط على ليل القبض ، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما ، ليكون لله ، لا لشىء دونه. وبالله التوفيق.
ولمّا ذكر التجليات العلوية ذكر التجليات السفلية ، فقال :
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))
يقول الحق جل جلاله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) أي : خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض (مِنْ ماءٍ) ؛ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، وهو جزء مادته عند الأطباء ، أو : من ماء مخصوص ، وهو النطفة ،