ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة ، فمنها أناسى ، ومنها بهائم ، ومنها هوام وسباع ، وهو كقوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) (١) وهذا دليل على أن لها خالقا مدبرا ، وإلّا لم تختلف لاتفاق الأصل ، وإنما عرّف الماء فى قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٢) ونكّره هنا ؛ لأن المقصود ثمّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء ، وأنه هو الأصل ، وإن تخللت بينه وبينها وسائط ، وأما هنا فالمراد نوع منه.
قالوا : إن أول ما خلق الله الماء ، فخلق منه النار والريح والطين ، فخلق من النار الجن ، ومن الريح الملائكة ، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قال النسفي. وعلى الثاني : تكون الآية أغلبية ؛ لأن من الحيوانات من يتولد من غير نطفة ، كالدود والبعوض وغيرهما.
ثم فصّل أحوالهم بقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) ؛ كالحية والحوت ، وتسمية حركتها مشيا ، مع كونها زحفا ، استعارة ، كما يقال فى الشيء المستمر : قد مشى هذا الأمر على هذا النمط ، أو على طريق المشاكلة ؛ لذكر الزاحف مع الماشين. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشى على أكثر من أربع ؛ كالعناكب ونحوها من الحشرات ؛ لعدم الاعتداد بها ، لقلتها. وتذكير الضمير فى (منهم) ؛ لتغليب العقلاء ، وكذلك التعبير بكلمة (من). وقدّم ما هو أغرق فى القدرة ، وهو الماشي بغير آلة ، ثم الماشي على رجلين ، ثم الماشي على أربع.
(يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر ، بسيطا أو مركبا ، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل ، مع اتحاد العنصر ؛ (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل فى الموضعين فى موضع الإضمار ؛ لتفخيم شأن الخلق المذكور ، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء ، وأظهر الماء من نور القبضة ، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول : أظهر الماء من نور الملكوت ، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت ، وبحر الجبروت هو بحر أسرار
__________________
(١) من الآية ٤ من سورة الرعد.
(٢) من الآية ٣٠ من سورة الأنبياء.