يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) فى دقائق الأمور وجليلها ، فى كل لحظة لا يستغنى أحد عنه طرفة عين ، ولا أقل من ذلك ؛ إذ لا قيام للعبد إلا به ، فهو مفتقر إلى الله ، إيجادا وإمدادا. قال البيضاوي : وتعريف الفقراء ؛ للمبالغة فى فقرهم ، كأنهم لشدة افتقارهم ، وكثرة احتياجهم ، هم الفقراء دون غيرهم ، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به ، ولذلك قال : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (١) قلت : ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى ، أي : أنتم فقراء دون خالقكم ، بدليل وصله بقوله : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
وقال ذون النون رضي الله عنه : الخلق محتاجون إليه فى كل نفس ، وطرفة ، ولحظة ، وكيف لا ، ووجودهم به ، وبقاؤهم به؟ ، (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عن الأشياء كلها ، (الْحَمِيدُ) أي : المجمود بكل لسان. ولم يسمّهم بالفقر للتحقير ، بل للتعظيم ؛ لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغنى ؛ أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر «الحميد» ليدل به على أنه الغنى النافع بغناه خلقه ، والجواد المنعم عليهم ؛ إذ ليس كلّ غنىّ نافعا بغناه ، إلا إذا كان الغنىّ جوادا منعما ، وإذا جاد وأنعم ، حمده المنعم عليهم.
ولمّا ذكر افتقارهم إلى نعمة الإيجاد ، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد ، بقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي : إن يشأ يفنيكم كلكم ، ويردكم إلى العدم ؛ فإنّ غناه بذاته ، لا بكم ، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يكون أطوع منكم ، أو بعالم آخر غير ما تعرفون. (وَما ذلِكَ) أي : الإفناء والإنشاء (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) ؛ بممتنع. وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده ، لا يشرك به شيئا. قال القشيري : فقر الخلقة عام لكلّ أحد ، فى أول حال وجوده ؛ ليبديه وينشيه ، وفى ثانى حال بقائه ؛ ليديمه ويبقيه. ه. قلت : وإليه أشار فى الحكم بقوله : «نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل موجود منهما : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، أنعم أولا بالإيجاد ، وثانيا بتوالي الإمداد».
الإشارة : الفقر على أربعة أقسام : فقر من الدين ، وفقر من اليقين ، وفقر من المال ، وفقر مما سوى الله. فالأولان مذمومان ، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع ، ومنهما وقع التعوذ فى الحديث. والثالث : إن صحبه الرضا فممدوح ، وفيه وردت الأحاديث النبوية ، وإلّا فمذموم ، ويشمله التعوذ فى الحديث. الرابع : هو مطلب القاصدين والعارفين ، وهو الغيبة عما سوى الله ، والغنى بالله ، كما قال الشيخ أبو الحسن : «أسألك الفقر عما سواك ، والغنى بك ، حتى لا نشهد إلا إياك» وهو ينشأ عن التحقق بالفقر ظاهرا وباطنا ؛ لأن الفقر من وصف العبد ، والغنى
__________________
(١) الآية ٢٨ من سورة النساء.