قلت : والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف ، فمنهم من هو مشتغل بنعيم الأشباح ، من حور ، وولدان ، وأطعمة ، وأشربة ، على ما يشتهى ، ومنهم من هو مشتغل بنعيم الأرواح ، كالنظر لوجه الله العظيم ، ومشاهدة الحبيب ، ومناجاة ومكالمات ، ومكاشفات ، وترقّيات فى معاريج الأسرار كل ساعة. ومنهم من يجمع له بين النعيمين ، وسيأتى فى الإشارة. وقوله تعالى : (فاكِهُونَ) أي : متلذذون فى النعمة ، والفاكه والفكه : المتنعم ، ومنه : الفكاهة ؛ لأنه مما يتلذّذ به ، وكذا الفاكهة.
ثم قال تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) ؛ جمع ظل ، وهو : الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفى قراءة «ظلل» بالضم ، جمع ظلة ، كبرمة وبرام ، وهو ما يسترك عن الشمس ، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس ، قال تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (١) (عَلَى الْأَرائِكِ) : جمع أريكة ، وهى السرير فى الحجلة. فالأرائك : السرر المفروشة ، بشرط أن تكون عليها الحجلة ، وإلا فليست بأريكة ، والحجلة : ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم (مُتَّكِؤُنَ) عليها كالملوك على الأسرة. (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) كثيرة مما يشتهون. (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي : كل ما يدعونه يأتيهم فورا ، فوزنه : يفتعلون ، من الدعاء ، أو : ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح ، من قولهم : ادّع علىّ ما شئت ، أي : تمنّه. وقال الفراء : هو من الدعوى ، ولا يدّعون إلا ما يستحقون.
(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي : من أهم ما يدعون : سلام يقال لهم قولا من رب رحيم ، بلا واسطة ؛ مبالغة فى تعظيمهم ، وذلك غاية متمناهم ، مضافا لرؤيته ، ومن مقتضى الرحمة : الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري : يسمعون كلامه وسلامه بلا واسطة ، وأكّد بقوله : (قَوْلاً). وبقوله : (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ليعلم أنه ليس على لسان سفير ، والرحمة فى تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية فى حال التسليم عليهم ، ليكمل لهم النعمة ه. وفى الحديث عنه صلىاللهعليهوسلم : «بينا أهل الجنة فى نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم ، فيقول : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فينظر إليهم ، وينظرون إليه» (٢).
ثم ذكر أهل البعد والحجاب ، فقال : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي : انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة ، وذلك حين يحشر المؤمنون ، ويساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة : عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار ، يكون فيه ، لا يرى ولا يرى أبدا. ه.
__________________
(١) الآية ٣٠ من سورة الواقعة.
(٢) أخرجه ابن ماجه فى (المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهمية ١ / ٦٦ ، ح ١٨٤) وزاد السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٥٠١) عزوه لابن أبى الدنيا ، فى صفة الجنة ، والبزار ، وابن أبى حاتم ، والآجرى فى الرؤية ، وابن مردويه ، عن سيدنا جابر رضي الله عنه.