الإشارة : إنّ أصحاب الجنة المعجّلة لأوليائه ، اليوم ، فى شغل كبير ، لا تجدهم إلا مشتغلين بالله ، بين شهود واستبصار ، وتفكر واعتبار ، فى محل المشاهدة والمكالمة ، والمناجاة والمساررة ، أوقاتهم محفوظة ، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة ، فهم فى شغل شاغل عن الدنيا وأهلها ، هم ومن تعلق بهم فى ظلال الرضا ، وبرد التسليم يرتادون ، وفى مشاهدة وجه الحبيب يتنعمون. قال القشيري : إن أصحاب الجنة اليوم ، أي : طلابها ، والساعون لها ، والعاملون لنيلها ، ولمثل ذلك فليعمل العاملون ، فهم فى الدنيا فى طلب الجنة عن المنعم بها ، كما جاء فى الحديث : «أكثر أهل الجنة البله» (١) ، ومن كان فى الدنيا عن الدنيا حرّا ، فلا يبعد أن يكون فى الجنة عن الجنة حرا ، «يختص برحمته من يشاء» ـ قلت : فالبله هم أهل الحجاب ، الذين يعبدون الله لطلب الجزاء ، ويقنعون بالنعيم الحسى ـ ثم قال : ويقال : الحقّ تعالى لا يتعلّق به حقّ ولا باطل ، فلا تنافى بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم ، وبين شهودهم مولاهم ، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته ، بأى حالة كانت. ولا يقدح اشتغالهم باستيفاء حظوظهم ، فى معارفهم. ه. مختصرا.
قلت : وما فى سورة الواقعة ، من ذكر نعيم السابقين ، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحور والولدان ، مع نعيم العيان والرضوان ؛ لأنهم فى الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة ، ومعاينة أسرار الحقيقة. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال ابن عطاء : السلام جليل عظيم الخطر ، وأجلّه خطرا ما كان وقت المشاهدة والمصافحة ، حين يقول : سلام قولا من رب رحيم. قال القشيري : الرحمة فى ذلك الوقت أن يبقهم فى حال سماع السلام ، أو حال اللقاء ، لئلا تصحبهم دهشة ، ولا تلحقهم حيرة. ه. وقال الورتجبي : سلام الله أزلى الأبد ، غير منقطع عن عباده الصالحين ، فى الدنيا والآخرة ، لكن فى الجنة ترفع عن آذانهم جميع الحجب ، فسمعوا كلامه ، ونظروا إلى وجهه كفاحا. ه. قلت : وقد يرفع فى دار الدنيا ، فيسمع سلام الله على عباده ، كما وقع لبعض الأولياء ـ. قيل : وفى قوله : (رَحِيمٍ) إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبدا ، مع الإبقاء عليهم فى حال السلام واللقاء ، فلا تصحبهم دهشة ، كما تقدم. وقيل : الإشارة فى الرحيمية : أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد ، وإنما هو بالرحمة ، فيكون للعاصى فيه نفس ومساغ للرجاء. قاله المحشى.
__________________
(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (٢ / ١٢٠ ـ ١٢٦ ، ح ١٣٦٦) من حديث جابر رضي الله عنه قال البيهقي معقبا : هذا الحديث بهذا الإسناد منكر.
كما أخرجه البيهقي فى الموضع نفسه (ح ١٣٦٧) والديلمي (الفردوس ح ١٤٦٣) ، وعزاه فى الكنز (ح ٣٩٢٨٣) للبزار ، من حديث أنس بن مالك. وقال العراقي فى المغني (٣ / ٢٠) : أخرجه البزار ، من حديث أنس وضعّفه ، وصححه القرطبي فى التذكرة ، وليس كذلك ، فقد قال ابن عدى : إنه منكر. راجع الكامل لابن عدى (٣ / ١١٦٠) والعلل المتناهية (٢ / ٩٣٤).
قلت : قال فى النهاية فى غريب الحديث (١ / ١٥٥) : «البله» هو جمع الأبله. وهو الغافل عن الشر ، المطبوع على الخير ، وقيل : هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس ؛ لأنهم أغفلوا أمر ديناهم ، فجهلوا حذق التصرف فيها ، وأقبلوا على آخرتهم ، فشغلوا أنفسهم بها ، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة. فأما الأبله ، وهو الذي لا عقل له ، فغير مراد فى الحديث.